الرئيسية / صحافة ورأي / عندما هدد المشير عامر إحسان عبد القدوس واتهمه بحب النساء

عندما هدد المشير عامر إحسان عبد القدوس واتهمه بحب النساء

عبد الكريم الحجراوي
عبد الكريم الحجراوي

منذ السطور الأولى لرواية “مفتش مراجيح القاهرة” (دار العين)، يفتح سامح الجباس بوابة لعبته الروائية على مصراعيها حين يتلقى اتصالاً غامضاً من شخص مجهول يدعوه إلى مقابلته ويسلمه مجموعة من الأوراق المبعثرة، ويكلفه بمهمة تدقيق ومراجعة الوقائع وتحرير النص، وإعادة ترتيب فصوله المتداخلة وغير المرقمة، فيدخل الجباس في هذه المهمة التي تنتج منها هذه الرواية، في سياق مشروعه الروائي المشغول بسبر أغوار شخصيات مشهورة، وهو هنا يقدم المصرية من أصل لبناني روز اليوسف (1898  – 1958) وابنها الروائي والقاص والصحافي إحسان عبدالقدوس (1919 – 1990).

العنوان مأخوذ من جملة وردت في سياق الرواية على لسان المشير عبدالحكيم عامر (1919 – 1967) الشخصية القوية في نظام حكم جمال عبدالناصر قبل هزيمة 1967 موجهة إلى إحسان عبدالقدوس تقول “أنصحك أن تتوقف عن دور مفتش مراجيح القاهرة، وأن تركز في نسوانك اللاتي تكتب عنهن، نحن نعرف عنك ما تفعله في كل دقيقة من حياتك، اغرق في الجنس يا إحسان، مالك أنت وأمور البلد وقرفها” (ص 195).

يأتي السرد على لسان روز اليوسف في مخطوط لإحسان عبدالقدوس لم يدفع به إلى النشر، فيمنح الجباس، المؤلف الحقيقي، لهذه السيدة، والتي جربت نجومية التمثيل المسرحي وصنع صحافة مختلفة من خلال تأسيسها مجلة حملت اسمها، صوتاً سردياً مركزياً في رحلة تنسج بين عالمين متداخلين، عالم متخيل يتقصى العلاقة المركبة بين أم عُرفت بالصرامة والجدية، وابن اشتهر بعلاقاته العاطفية وكتاباته الجريئة، وما بينهما من مشاعر متناقضة وعالم واقعي يغوص فيه المؤلف في أرشيف “روز اليوسف”، مستعرضاً المواضيع التي طرحتها المجلة، ومتتبعاً خطى إحسان في مقالاته وتحقيقاته.

وفي خضم بنائها السردي متعدد الطبقات، تقدم الرواية جرعة نقدية هائلة لأعمال عبدالقدوس عبر تحليل أدبه ومنه روايته “شيء في صدري”، فقد “مارس إحسان لعبة الاختفاء الذكي وراء حديث الحب الصريح والجنس، إذ استطاع أن يقدم من خلال الإطار الخارجي صورة دقيقة التفاصيل بشعة الملامح لشخصية حسين باشا شكري الذي نبت من الحضيض، واستطاع أن يصل بأساليب ملتوية إلى قمة السيطرة الرأسمالية المتحكمة في حياة مصر الاقتصادية والسياسية والدستورية أيضاً”.  

تخييل وتوثيق

عمل الجباس على استخلاص سيرة إحسان عبدالقدوس من بين سطور رواياته وقصصه، ومن ذلك قول الساردة المتخيلة “أعرف أن ابني يخشى أو يتجنب المواجهة المباشرة معي، وبدأ ينفث ويعبر عما يعتلج في وجدانه من اعتراضات على شخصيتي أو حياتي في سطور تظهر بين حين وآخر في قصصه” (ص 53).

واختار الجباس أن يحمل كل فصل عنوان أحد أعمال إحسان، “صانع الحب” و”بائع الحب” و”النظارة السوداء” و”أنا حرة” و”أين عمري” و”الوسادة الخالية” و”الطريق المسدود” و “لا أنام” و “في بيتنا رجل” و”شيء في صدري” و”نسيت أنني امرأة”، ليخلق بذلك توازياً دلالياً بين النص الروائي والسياق التاريخي والإبداعي، وحرص كذلك على كشف الظلم النقدي الذي تعرض له عبدالقدوس، متتبعاً أسباب تجاهله من جانب النقاد اليساريين، وخصوصاً الذين وصفوا أدبه بأنه “أدب فراش” وصنفوه في خانة الصحافي لا الأديب.

غير أن الطموح التوثيقي للإحاطة بعوالم إحسان، وإن أعطى الرواية عمقاً بحثياً وجاذبية تاريخية، فقد أثر أحياناً في حيويتها الأدبية، إذ تحول في مواضع عدة إلى أحد أشكال الأرشفة الجامدة نتيجة الإفراط في الإحالات والاقتباسات، وظهرت في أكثر من فصل مظاهر التداخل الزمني التي أربكت التتابع المنطقي للأحداث، وأضعفت من تراتبية الزمن السردي التي يفترض أن يستند إليها منطق الحكي الروائي، فمثلاً بعد استعراض أحداث تعود لعام 1950، ينتقل السرد مباشرة في الفصل التالي إلى وقائع من عام 1945 من دون تمهيد يبرر هذا الانتقال أو يقيم صلة عضوية بين المستويين الزمنيين، ويترتب على هذا الخلل في التتابع الزمني تكرار غير مبرر لبعض الأحداث أو الجمل، كما في الإلحاح المتكرر على فكرة أن إحسان عبدالقدوس ورث العناد عن والدته، حتى تلاشت دلالتها الرمزية وباتت أقرب إلى مجرد جملة تقريرية.

النضال النسوي

وافتقر السرد في بعض أجزاء الرواية إلى السلاسة المطلوبة في الانتقال بين المواضيع، إذ تتزاحم القضايا والملفات ضمن حيز ضيق من الرواية، ويظهر هذا بين الصفحات من 100 إلى 105، حين يمر الجباس بسرعة على سلسلة من الأحداث والقضايا المتباينة، من محاولة اغتيال إحسان وسفره إلى فلسطين لتغطية الحرب، واغتيال النقراشي وإدانته لأفعال “الإخوان المسلمين”، وتأملات الساردة في العلاقة بين الصحافة وعالم التمثيل، وصورة المرأة في الصحافة المصرية، وتأسيس مجلة “روز اليوسف”، ورأي عبدالقادر المازني في أدب إحسان، ثم استقصاء حول رواية “النظارة السوداء” وسياقها الاجتماعي، وصولًا إلى علاقة إحسان بجمال عبدالناصر قبيل الثورة، فهذا التعدد الموضوعي، في غياب خيط سردي يربط بين مكوناته، يضعف تماسك الرواية ويجعلها تميل أحياناً نحو طابع تجميعي أو توثيقي، أكثر منه سرداً أدبياً مترابطاً.

ومن القضايا الإشكالية التي تطرحها الرواية كذلك محاولتها تقديم إحسان عبدالقدوس بوصفه من أوائل المدافعين عن حقوق المرأة في مجتمع تقليدي رافض لتحررها، وهو طرح لا يمكن رفضه من حيث المبدأ، لكنه يستدعي قدراً من التريث النقدي ووضعه في سياقه التاريخي الصحيح، فالرواية توحي بأن عبدالقدوس كان رائداً في الدفاع عن المرأة وسباقاً إلى تصوير قضاياها، بينما تغفل عن الإطار الفكري والاجتماعي العريض الذي مهد لهذا الخطاب، بدءاً من دعوات قاسم أمين ومروراً بطه حسين وكتّاب الواقعية الاجتماعية في النصف الأول من القرن الـ 20، بل إن والدته روز اليوسف التي تظهر في الرواية بوصفها شخصية مركزية، هي في ذاتها نتاج لهذا المسار التحرري الذي انطلق مع ثورة 1919 وما تلاها من نضالات نسوية.

Independent News 

شاهد أيضاً

علاقة ملتبسة بين كاميل كلوديل وديبوسي وبينهما رودان

نعرف طبعاً أن النحاتة الفرنسية كاميل شقيقة الشاعر والدبلوماسي بول كلوديل رحلت عن عالمنا في …