الرئيسية / كلمة العدد /
الغربة الثانية (٦٤)
خدعة.. محتال الصحافة البريطانية!
مودي حكيم
مودي حكيم

الغربة الثانية (٦٤)
خدعة.. محتال الصحافة البريطانية!

فى زحمة العمل ومع إرتباطي الجديد كنت أشعر بالفخر وأنا أردد لكل المحيطين “أنا مشغول” وكأنه وسام شرف على صدري، لكن الكثيرين يأخذون إنطباعا يقوض حياتي المهنية وعلاقاتي بمن حولي. إنشغلت عن شركتي وأعمالي وتعاقداتي، إنشغلت شهورًا بالمشروع الجديد والتوسع الوهمي، فى وقت كانت جريدة Racing Post تستعد للإنطلاق. إفتقدني صديقي جراهام روك رئيس تحريرها، وشعر بفقدان الأمان لعدم تواجدي فى وقت كان فى أشد الحاجة لي لأقف الى جانبه. لم يرقْ له الصمت الذي بيننا، وأخذ روك قراره بالتعاقد مع مطبعة أخري خارج لندن، ومعها واجهت محنة الأزمة الإدارية بسبب التوتر والحيرة داخل المؤسسة. وقد أثّر ذلك علي أداء العاملين وكيان المؤسسة الإستراتيجي.

حاربت وسواس النفس وشيطان الفكر فى أن اربط إنسحاب جريدة الخيل من ملعبي بالمشروع الجديد…ولم لا؟ فماكسويل يخاف المنافسة، ومن إستحواذ الجريدة الجديدة القادمة The Racing Post علي  قراء جريدته  Sporting Life الوحيدة فى الأسواق التى تهتم بالرياضة وتخصص قسمًا لسباق الخيول (وهذا ما حدث فعلًا فقد إستحوذت راسينج بوست على ٩٥ % فى الأسبوع الأول من صدورها كجريدة متخصصة فى سباقات الخيل). وتساءلت هل العرض بالشراكة سلوك سام من روبرت ماكسويل؟ وإنسحابه المفاجئ مراوغة، ومحاولة إحتوائي دناءة من واحد من الأفاعي البشرية المحيطين بنا، ليحقق هدفه وغايته بإبعاد الجريدة المنافسة من الطباعة بقلب لندن؟ !. وقررت عدم التسرع والقفز لإستنتاجات ربما تكون خاطئة.

كان من المهم معرفة سبب الإختفاء المفاجئ لفريق عمل روبرت ماكسويل ومعاونيه وإنقطاع التواصل، وكأن شيئا لم يكن. تذكرت أحد مفردات الشك فى الحارة المصرية “الفار بيلعب في عبي”. فعلًا بدأ الفأر يلعب فى عبي، وكان من الصعب التكهن بما حدث أو التوقع بدون أدلة. وانا لا أدّعي علم الغيب، فالغيب لا يعلمه إلا الله. لم يكن أمامي إلا أن أستدعي مدير مبيعاتي بيتر جاكسون الذي سبق وعمل مع ماكسويل، وهو الرجل الذي تم الإتصال به لتحديد موعد اللقاء الشهير بيني وبين “Tycoon”  الصحافة البريطانية، محاولاً أن أجد لديه أي معلومات حول الإختفاء المفاجئ بعد إتفاق الشراكة على الورق. لم يكن لديه أي معلومات، وإستأذن بالسماح له بزيارة أصدقاء له بمقر الميرور جروب لعله يجد الإجابة، ومعرفة ما يدور فى الكواليس، فالإتصال التليفوني لن يفيد فى تفسير ماهية هذا الإنسحاب، وإكتشاف سبب الإختفاء، وإستشعار نبض الحدث المفاجئ. لم يستطع جاكسون معرفة الإجابات والمعلومات الدقيقة لتساؤلاتي. فقد عاد بانطباع أن المجموعة فى وضع متأزم و تواجه صعوبات مالية.

المعلومة والإنطباع الذي عاد به بيتر جاكسون لم يحمل إجابة شافية ومقنعة، وزادتني الحيرة وتنازعتني الهواجس، ورحت أتبع ظنوني بأن الأمر مناورة لإبعادي عن التعاقد مع مشروع آل مكتوم وجريدته  Racing Post، فهل من المعقول أن يعاني روبرت ماكسويل من ضائقة مالية ؟ وقد وصلت ثروته الى أكثر من ٧ مليار دولار وقد جمعها فى وقت قصير… وهو يعيش حياة الملوك (قصر ويخت وطائرة خاصة).

****

الرجل الذي دخل شارع  فليت الشهير بلندن “شارع الصحافة” وأحدث تطورا في مسيرة مهنية مضطربة تغطي كلاً من السياسة والأعمال، وعمل  كعضو عمالي في البرلمان إلى أن وجه حزبه اللوم إليه لتدخله كثيرًا في شؤون الحزب المحلية. إنه إشتراكي معلن، لكنه أحد أغنى الرجال في بريطانيا. إبن فلاح تشيكوسلوفاكي، خرج من الفقر المدقع في مستوطنة يهودية في تشيكوسلوفاكيا، حيث قُتل معظم أفراد عائلته في المحرقة، ليصبح بطل حرب في الجيش البريطاني، ثم قطبا للنشر الأكاديمي. جاء إلى إنجلترا خلال الحرب العالمية الثانية وإستمر في بناء إمبراطورية نشر من لا شيء تقريبًا. أدرك السيد ماكسويل، الذي تعلم اللغة الإنجليزية في ستة أسابيع، ويتقن ثمان لغات أخرى، أن هناك حاجة ما بعد الحرب لنشر المعلومات العلمية. وفي البداية عام ١٩٥١، حصل على دار نشر صغيرة، وهو الرجل الذي لم يضعف طموحه التجاري أبداً. فى أواخر الثمانينيات والتسعينيات، قام بشراء MacMillan للنشر مقابل ٢،٦ مليار دولار.

عندما تعرفت وإلتقيت بروبرت ماكسويل مالك ورئيس مجموعة الميرور، كان يرأس ايضا مجلس إدارة  Pergamon Press، وهى دار نشر علمية رائدة وأكبر قاعدة بيانات علمية محوسبة في أوروبا. وهو المساهم الأكبر فيها. وقتها أعلنت شركة Pergamon عن أرباح قبل الضرائب بلغت ٤٣ مليون دولارمن مبيعات بلغت ٤٤٨ مليون دولار. وتوسعت بيرجامون مرة أخرى عندما إستحوذت على حصة مسيطرة من شركة طباعة شبه مفلسة، ومنذ ذلك الحين أعيدت تسميتها شركة الطباعة والإتصالات البريطانية، والتي تحولت إلى مشروع مربح بعد العديد من المواجهات العمالية المريرة. وقد حققت شركة British Printing أرباحًا قبل الضرائب بلغت ٢٨ مليون دولار من مبيعات ٣٠٠ مليون دولار.

****

كان لابد من حسم الأمر فى قضية الإختفاء المفاجئ  لروبرت ماكسويل ورجاله وتوقف التواصل، وفتح الأبواب المغلقة لمشروع شراكة لم يتم، واللجوء للأبواب الخلفية، وكسر خصوصية إخفاء السبب الحقيقي للتغيرات التى طرأت وأضرت بشركتي ومصالحي، لمعرفة أين أقف بعد أن خسرت تعاقدات مستقبلية، وجهد إستمر أشهر فى الدراسة والبحث. إتصلت مرات عديدة بسكرتيرة روبرت ماكسويل وكاتمة أسراره جين بادِيليِّ، وأمام إلحاحي إستجابت لدعوتي للقاء فى مقهي وبار إل فينو El Vino الذي إكتسب شعبية بين الصحفيين والمحامين منذ انتقل للمبني رقم ٤٧ فليت ستريت شارع الصحافة القريب من مقر مجموعة “الميرور”. وكنت مستعدًا لمواجهة مهارة وفنون إخفاء الإسرار، والمخاتلة والمكر والمراوغة والمناورة للحصول على المعلومة. إدهشني عندما إلتقيت بها أن الأمر كان أسهل مما ظننت، فقد شقت “جين” صدرها وفتحت قلبها، متعاطفة معي لتؤكد لي ظنوني. وجاء ردها حاسمًا “الأستاذ ضايقه صدور جريدة منافسة لجريدته الرياضية Sporting Life، فأراد تعطيل إصدارها من مطابعك الوحيدة فى قلب لندن، رغم أنه كان حقاً صادقًا فى رغبته في إبقاء مطبوعاته فى الصدور من لندن، لكنه يواجه ضغوطا مالية ستعرف عنها لاحقًا”.

إنكشف المستور، وإذا عُرف السبب بطَل العجب. وقررت طي هذه الصفحة من حياتي التي خدعني فيها واحد من أشهر وأنجح رجال الصحافة فى بريطانيا.

****

فى كتاب “السقوط” لجون بريستون، يروي قصة روبرت ماكسويل، ويصفه بالمحتال الوحشي والغامض والمتسلّط والنرجسي ذي الشهية العملاقة، والذي كان في ذروته أحد أكثر رجال الأعمال شهرة في العالم…. وسنأتي اليه لاحقًا.

 

شاهد أيضاً

مودي حكيم

لقاء مع الجاسوس روبرت ماكسويل «1»

«كل لحظة من النور أو الظلام هى معجزة حقيقية علينا أن نستغلها».. المقولة لأحد أهم …