
أستاذ مساعد في قسم المالية والاقتصاد في جامعة قطر
يشهد الاقتصاد الأميركي حالة من الازدواجية المربكة؛ فمن جهة، تُظهر الأسواق المالية وبعض مؤشرات النمو الكلي قوة لافتة، مدعومة بطفرة تكنولوجية هائلة واستثمارات ضخمة.
ومن جهة أخرى، تتراكم التحديات الهيكلية العميقة التي تهدد استدامته على المدى الطويل، إن هذا التناقض يستدعي الحذر ويدعو إلى تحليل دقيق يتجاوز الأرقام السطحية..
الوهم الكامن في القوة السطحية
تتركز القوة الظاهرة للاقتصاد الأميركي في الوقت الراهن حول ظاهرتين رئيسيتين: الشركات السبع الكبرى (Magnificent Seven) والاستثمار غير المسبوق في الذكاء الاصطناعي (AI). هذه الشركات -التي تشمل عمالقة التكنولوجيا- قادت الجزء الأكبر من مكاسب مؤشر S&P 500 خلال عامي 2023 و2025.
وقد أدت الوعود بتحقيق قفزات إنتاجية هائلة بفضل الذكاء الاصطناعي إلى ضخ تريليونات الدولارات في قيمتها السوقية، ما خلق قوة دافعة هائلة للسوق المالية.
ومع ذلك، يرى العديد من المحللين أن هذا التركيز يشكل خطر الفقاعة (Bubble Risk). إذا لم تتمكن استثمارات الذكاء الاصطناعي من التحول إلى مكاسب إنتاجية واسعة النطاق وعوائد مالية تبرر التقييمات الحالية التي غالباً ما تتجاوز نسب السعر إلى الأرباح التاريخية، فإن تصحيحاً حاداً للسوق سيكون أمراً وارداً، ما يهدد الاستقرار المالي والنفسية الاقتصادية العامة.
هذا التفاؤل يغطي على حقيقة أن النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي (GDP) كان مدعوماً بشكل كبير بالإنفاق الحكومي، ما يثير تساؤلات حول طبيعة هذا النمو.
الوهن الهيكلي.. التحديات الديموغرافية والتصنيع
المشكلات الديموغرافية والهجرة
تعتبر التغيرات الديموغرافية أحد أكبر التحديات الهيكلية، تشير بيانات مكتب الإحصاء الأميركي إلى تباطؤ نمو السكان وشيخوخة القوة العاملة، وانخفاض معدلات المواليد وارتفاع متوسط الأعمار يعني انخفاض نسبة السكان في سن العمل مقارنة بكبار السن (نسبة الإعالة)، ما يضع ضغطاً متزايداً على برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية.
في المقابل، وعلى الرغم من أن الهجرة يمكن أن تخفف من هذه الضغوط، فإن السياسات المتقلبة والمناقشات حول الهجرة النظامية والقوة العاملة الأجنبية تخلق عدم يقين في سوق العمل، وتؤثر على نمو القوة العاملة ومهاراتها.
تآكل وتراجع قطاع التصنيع (Deindustrialization):
تعاني الولايات المتحدة من ضعف وتراجع مستمر في حصة قطاع التصنيع من الناتج المحلي الإجمالي والتوظيف، وهو تراجع تفاقم على مدى العقود الماضية بسبب العولمة ونقل المصانع.
فبينما تحاول المبادرات الحكومية مثل قانون خفض التضخم (IRA) وقانون CHIPS إعادة توطين سلاسل الإمداد، لا يزال القطاع يمثل نحو 11% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أقل بكثير مما كان عليه في العقود الماضية، هذا الضعف يقلل من القاعدة الإنتاجية الحقيقية للاقتصاد ويزيد من اعتماده على الخدمات والاستهلاك.
ضعف مؤشر التصنيع PMI: يُعد هذا المؤشر الرائد ناقوس خطر، حيث تشير قراءاته الضعيفة (خاصة في التصنيع وتباطؤ الخدمات) إلى أن النشاط الاقتصادي الحقيقي للشركات الصغيرة والمتوسطة في معظم الولايات بدأ يعاني من الركود فعلياً.
تحدي القطاع العقاري ومستويات الركود الإقليمي
أزمة القدرة على تحمل التكاليف العقارية
يمثل القطاع العقاري مشكلة هيكلية أخرى، بعد سنوات من انخفاض أسعار الفائدة، أدى الارتفاع السريع في أسعار الفائدة الفيدرالية لمكافحة التضخم إلى قفزة في تكاليف الرهن العقاري (Mortgage Rates)، ما أثر بشكل كبير على القدرة على تحمل تكاليف السكن (Affordability) للعديد من الأميركيين.
وفقاً لتقارير الفيدرالي، لا يزال التضخم في الإسكان يشكل ضغطاً، وقد تسببت أسعار الفائدة المرتفعة في انكماش نشاط البناء السكني والتجاري، كما أن قطاع العقارات التجارية (CRE)، وخاصة المكاتب، يواجه تحديات وجودية بسبب الاتجاه المستمر للعمل عن بعد (Remote Work)، ما ينذر بخسائر كبيرة للبنوك الإقليمية.
التباين الإقليمي ومخاطر الركود
في حين قد تُظهر بعض الولايات الساحلية والمدن الكبرى التي تستضيف شركات التكنولوجيا نمواً قوياً في الوظائف والأجور، فإن التباين الإقليمي (Regional Divergence) يزداد سوءاً.
تشير العديد من البيانات الإقليمية إلى أن أغلب الولايات بدأت تعاني بالفعل من تباطؤ أو ركود فعلي في قطاعات مهمة مثل الصناعة والخدمات اللوجستية، وفقاً لمؤشرات بنوك الاحتياطي الفيدرالي الإقليمية (مثل مؤشرات فيلادلفيا ونيويورك).
هذا الركود «المتستر» في الولايات الأقل ديناميكية لا يظهر بوضوح في البيانات الوطنية الإجمالية ولكنه يمثل ضغطاً تصاعدياً على نسب البطالة الحقيقية والرفاه الاقتصادي.
تآكل الثقة ومستقبل الدولار
تعد المكانة العالمية للدولار الأميركي كعملة احتياط مهيمنة ركيزة أساسية لقوة واشنطن الاقتصادية، لكن هذه المكانة تواجه تحديات متزايدة، أبرزها تآكل الثقة العالمية في استقرار السياسة الاقتصادية الأميركية، أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى هذا التآكل هي سياسات الرسوم الجمركية العدوانية التي تبناها الرئيس دونالد ترامب.
وتتجلى نتائجها في اتجاه متزايد نحو تسييس العملة والتحول نحو عملات بديلة في التسويات التجارية (De-dollarization)، لا سيما بين القوى الكبرى، ما يشكل خطراً طويل الأمد على هيمنة الدولار.
الخلاصة والحاجة إلى الحذر
إن الاقتصاد الأميركي يمتلك قاطرات نمو قوية حالياً في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لكن هذه القوة تقف على قاعدة هشة ومتهالكة من المشكلات الهيكلية المتجذرة في الديموغرافيا، وتآكل قاعدة التصنيع، وتحديات القطاع العقاري وتراجع الثقة بالاقتصاد الأميركي والدولار.
يجب على صانعي السياسات والمستثمرين على حد سواء أن يتحلوا بالحذر (Caution)، فبينما يتسابق المستثمرون نحو شركات التكنولوجيا العملاقة، يجب عدم إغفال الإشارات التحذيرية التي تأتي من البيانات الإقليمية والعقارية، لأن القوة التي لا تتوزع على كل القطاعات والمناطق هي قوة مؤقتة ومعرضة للانفجار تحت ضغط أول صدمة اقتصادية كبرى.
يجب إعادة التركيز على الاستثمارات الهيكلية واسعة النطاق في البنية التحتية، والتعليم، وتقليل المديونية الحكومية لضمان نمو مستدام ومتوازن.
CNN Business News
مجلة 24 ساعة