الرئيسية / كلمة العدد /
الغربة الثانية (٥٧)
..وضاع المال ياولدي !
مودي حكيم
مودي حكيم

الغربة الثانية (٥٧)
..وضاع المال ياولدي !

كل ما مضي من حكاياتي فى غربتي الثانية ورحلتي مع الإعلام العربي المهاجر يصور مرحلة مشرقة فى حياتي، رغم صعوبة التحديات ومعاناة الغربة، وتجارب الأيام بحلوها ومرها وشراستها أحياناً. طويت المسافات بين البلدان، مهما استطالت على، مشاركاً فى نشر الفن الصحفي وإعلاء الإبداع، باحثًا بتنقيباتي فى الثقافة، لا أبخل على زملائي وتلاميذي فى العمل بكل مالدي من خبرات ومعرفة وبسخاء.  وبشكل عام لم يكن فيها شئ يزعجني أو يزعج الآخرين.

فاجأني الزلزال العربي العاصف، كما فاجأ العالم كله، وكان لابد من مواجهته، وتجنب توابعه. توقفت الجريدتان اليوميتان، وحاصرني الفراغ الذي من الصعب سده بترك جريدة “الثورة” العراقية و” القبس” الكويتية عجلة الإنتاج وما أصاب الطاقة الإنتاجية، والتأثير السلبي من أضرار وخسائر. خفف على الأمر قليلًا أني لم أكن وحدي، فالعالم واجه أزمة إقتصادية الى جانب الخسارة البشرية من ضحايا الحرب.

وعلى الرغم من أن حياة البشر لا تقدر بمال، فإن الخسائر في عالم الحسابات تقدر بالدولارات، وتعكس بالأساس الخسائر الإقتصادية الناجمة عن الحرب التي أدت إلى فورة في أسعار النفط لفترة قصيرة، ثم ما لبث سعر البرميل بعدها في الهبوط من 22 دولاراً إلى 17.80 دولار للبرميل. وحسب المصدر العربي الرسمي الموثوق، الذي قدر التكلفة المباشرة لحرب الخليج وقتها، “فإنها بلغت 620 مليار دولار (بسعر صرف الدولار وقتها). وفقا لـ”التقرير الإقتصادي العربي” لعام 1991 الصادر عن صندوق النقد العربي والجامعة العربية ومنظمة الدول العربية المصدرة للبترول (أوابك). وفي التفصيل، قدر التقرير خسائر الحرب نتيجة دمار آبار النفط وخطوط الأنابيب ووسائل الإتصالات والطرق والمباني والمصانع بقيمة 160 مليار دولار للكويت و190 مليار دولار للعراق.

بنظرة سريعة على التقرير السنوي الداخلي لصندوق النقد الدولي الصادر قرب نهاية عام 1991 نلاحظ التأثير الأوسع لحرب الخليج على الإقتصاد العالمي ككل. فقد تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 3% إلى 2%.

ولم تسلم مصر من آثار العدوان العراقي على الكويت، وتأثرت أوضاعها الإقتصادية بصورة سلبية، فقد عاد نحو نصف مليون من العمال المصريين الذين يعملون بالدولتين. وتطلب ذلك من الدولة إعادة تأهيل تلك العمالة وإيجاد فرص عمل لهم، بالإضافة لتوقف تحويلاتهم التى تبلغ أكثر من ثلاثة مليارات دولار أمريكي. وقتها قدر البنك الدولي أن مصر من أكثر الدول تضررا من الإجتياح العراقي، لإنخفاض مواردها من النقد الأجنبي بنحو 6,3 مليار دولار معظمها من التحويلات النقدية للعمالة، وإنخفاض إيرادات السياحة وإيرادات قناة السويس. …وأصاب العراق والعالم ركود إقتصادي!

كانت لحظات صعبة ألمت بي وبالعاملين معى، فقد جندت أكثر من خمسين شخصاً لمهمة يكونوا فيها يومياً على أهبة الإنطلاق بأجهزة الصف وفصل الألوان، متأهبين للإصدار اليومي، وفجأة تتوقف المهمة، جنود من الصعب “تسريحهم”، معظمهم مغتربين فى أشد الحاجة للعمل ودخل يوفر لهم حياة كريمة في الغربة.

فى اليوم الكئيب الثاني من أغسطس/ آب 1990، لم يحضر أحد من  جهازي التحرير للصحيفتين وسجلوا غياباً.

لم أستوعب ما يحدث، رفضت تصديقه فى البداية، مازال عندي أمل وخاصة أنه بعد عشرة أيام من الإجتياح فى 12  أغسطس 1990، قدم العراق ما سماه “حلا للجميع في المنطقة”، تضمن عرضا بانسحابه من الكويت مقابل تنفيذ قرارات الأمم المتحدة  السابقة بشأن الأراضي التي إحتلتها إسرائيل بانسحاب الأخيرة منها. لكن رفض العرض.

وفي 25 أغسطس/ آب  1990، أصدر مجلس الأمن قراره رقم (665) بفرض حصار بحري على العراق والسماح للقوات البحرية الدولية باتخاذ “التدابير اللازمة”، وتلاه قراره الذي صدر في 25 سبتمبر/ أيلول 1990 بفرض حصار جوي عليه، مخولا الدول الأعضاء في المجلس إتخاذ “جميع التدابير اللازمة لضمان نفاذه وتأثيره”. وفي أثناء ذلك، تشكل تحالف دولي بلغ تعداده أكثر من ثلاثين دولة بقيادة الولايات المتحدة، واكتسب “شرعيته” الدولية بعد إعتماد مجلس الأمن قراره رقم (678) يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثانى 1990، والقاضي باستخدام “كل الوسائل اللازمة” – بما فيها إستعمال القوة العسكرية ضد العراق- ما لم يسحب قواته من الكويت، وحدد القرار يوم 15 يناير/ كانون الثاني 1991 موعدا نهائيا لذلك الإنسحاب. لم يبال العراق بالحشد الدولي ولا بالموعد المقرر لإنسحابه، وقبيل إنتهاء المهلة المحددة لذلك إلتقى وزير خارجيته طارق عزيز مع وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر في جنيف يوم 9 يناير 1991 في محاولة أخيرة لـ”إقناع” العراق بالإنسحاب، ولكن لم ينتج شيء عن هذا اللقاء. فانتهت فترة الإنذار الدولي يوم 15 يناير 1991 ولم تستجب بغداد للمطالبة الأممية بخروج قواتها من الكويت.

خلال فترة الإنذار، علمت من مسئول التحرير عن الطبعة الدولية هاني العلاق أن رئيس التحرير حميد سعيد سافر الى بغداد بعد أن نسق مع السفارة العراقية تسديد كل مديونيات المتعاملين مع الجريدة، وسمح له بالبقاء فى المملكة المتحدة حتى تصفية كل متعلقات الجريدة. ثم تلقيت مكالمة من السفارة العراقية قبل إنتهاء فترة الإنذار الدولي تطالبني بالحضور فى أسرع وقت، فقد  وجهت الحكومة البريطانية إنذارًا الى البعثة الدبلوماسية العراقية بوجوب مغادرة البلاد، ما يعني إغلاق السفارة العراقية أبوابها فى إنجلترا، وفقدان الحصانة الدبلوماسية للعاملين فيها. فى اليوم التالى توجهت للقاء السكرتير الأول للسفارة  بشرق غرب العاصمة البريطانية بمقره بالسفارة، الذي سلمني خطابًا رسميًا موقع من السفير العراقى وموثق بختم الدولة الرسمي يثبت حقوقى. إعتذر الدبلوماسي الموقر عن عدم إصدار صك بنكي بقيمة الدين نظرا لتجميد حسابات العراق فى بنوك العالم، على أمل أن أسافر يومًا لبغداد لصرف مستحقاتي، وهذا مالم يحدث. ومازلت أحتفظ بالخطاب الرسمي كوثيقة تاريخية.

فى نفس الوقت كثفت إتصالاتي بالمسئولين فى جريدة القبس الدولية، الصديق والزميل الصحفي وفائي دياب الذي أخبرني انه تلقى تعليمات بتصفية المكتب وإغلاقه، وسيبلغ أصحاب الدار بمطالبتي وتسديد حقوقى. أغلق دياب المكتب وإلتحق بجريدة الشرق الأوسط مديرًا للتحرير، ليتركها عندما عادت الكويت لأهلها ليعمل نائبًا لرئيس تحرير ” الأنباء” الكويتية. ثم تركها بعد أربع سنوات ليؤسس أول مكتب من نوعه فى الكويت باسم “نيو نيوز” للخدمات والإستشارات الإعلامية، حتى وافته المنية عن عمر 55 عاماً. وبحثت عن المدير العام أحمد النجدي ومدير المطابع عبدالله برهم وهو فلسطيني يحمل جواز سفر أردني، وكانا قد تشاركا لإنشاء مطبعة تجارية، وبعد شراء الماكينات والمعدات وفى مرحلة التأسيس، حدث الغزو العراقي. وعلمت انهما سافرا الى الأردن على أمل إنشاء مطبعة هناك. أما مدير التوزيع فواز عابدين وهو سوري الجنسية فقد كان يفكر فى إنشاء مشروع للأطعمة الجاهزة وتوصيل الطلبات للأسر العربية المقيمة.

حاولت الإتصال برئيس التحرير محمد جاسم الصقر ولم أوفق. وحاولت التواصل مع أي من أفراد العوائل المؤسسه للجريدة: الخرافي، الشايع، البحر  والنصف، فالجميع لجأوا لسويسرا أو فرنسا وآخرين للمملكة السعودية مع أمير البلاد .. وبدأت أستمع لكلمات  وردود غريبة تتردد مع كل إتصال “والله ياأخي … كلنا خسرنا بها الحرب”.

****

حتى بعد وضع الحرب أوزارها فى الثالث من أبريل/ نيسان 1991، وفرض مجلس الأمن على الحكومة العراقية دفع تعويضات لكل الدول والمؤسسات والمنظمات والأشخاص الذين تضرروا جراء غزو الكويت وفقًا لقراره 687، فلم أحظي بنصيبي .. وأصبحت من المتضررين بلا تعويضات.

وضاع “المال” يا ولدي ….

 

شاهد أيضاً

مودي حكيم

مصر – غزة – بالقطار “5”
ترويقة مناقيش بالزعتر

في صباح اليوم الثاني لي في غزة، التقيت مع ثلاثي الفن والشعر الغزاوية، شموط وبسيسو …