الرئيسية / صحافة ورأي / الجغرافيا الجديدة للاستثمار العربي.. من واشنطن إلى نيروبي

الجغرافيا الجديدة للاستثمار العربي.. من واشنطن إلى نيروبي

جابر محمد الشعيبي
جابر محمد الشعيبي
كاتب وباحث إماراتي

في العقدين الماضيين، كان رأس المال العربي يتحرك في مسار تقليدي نحو الغرب، بين نيويورك ولندن وباريس، حيث كانت واشنطن تمثل الوجهة الرمزية للاستقرار والثقة في النظام المالي العالمي.

أما اليوم، فقد تغيّرت الخريطة، وتبدلت البوصلة؛ لم تعد واشنطن هي مركز الجاذبية الوحيد، بل باتت نيروبي، عاصمة كينيا، ترمز إلى الوجهة الجديدة لرأس المال العربي؛ إلى الجنوب العالمي الصاعد حيث تنبض فرص النمو في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وبين هاتين المدينتين تتجلى رحلة التحول من استثمار يبحث عن الأمان إلى استثمار يصنع التأثير الإيجابي، ومن تبعية للأسواق الغربية إلى تموضع استراتيجي جديد في قلب الاقتصاد العالمي.

وراء هذا التحول أسباب متعددة، منها تصاعد التوترات الجيوسياسية، وارتفاع معدلات الفائدة في الأسواق الغربية، وبروز مناطق نامية تحقق معدلات نمو تفوق 5% سنوياً. لكن الأهم هو إدراك الدول العربية أن العالم يتجه نحو نظام اقتصادي متعدد الأقطاب، وأن النفوذ القادم لن يُقاس فقط بحجم الثروة، بل بقدرة رأس المال على بناء الشراكات عبر الجنوب العالمي.

إفريقيا تمثل اليوم البوابة الأبرز لهذا التحول؛ فالإمارات والسعودية وقطر باتت من أبرز المستثمرين في الموانئ والطاقة والزراعة والاتصالات في القارة السمراء.. في شرق إفريقيا، رسخت موانئ دبي العالمية وجودها في كينيا وتنزانيا والسنغال ضمن استراتيجية تربط البحر الأحمر بالمحيط الأطلسي، أما السعودية فاستثمرت في الأمن الغذائي عبر مشاريع زراعية في السودان وإثيوبيا ونيجيريا، فيما تبنّى المغرب مقاربة ذكية تربط شمال القارة بغربها، من خلال بنوكه وشركاته الصناعية التي توسعت في السنغال وساحل العاج.. لم تعد إفريقيا مجرد سوق واعدة، بل عمقاً استراتيجياً للأمن الغذائي والطاقة وفضاء حيوياً للتعاون الجنوبي-الجنوبي في عالم يعيد تعريف موازينه.

وفي الشرق، تشهد العلاقات العربية-الآسيوية تحولاً نوعياً يعكس إدراكاً متزايداً بأن آسيا أصبحت مركز الثقل الاقتصادي العالمي الجديد. تستثمر الإمارات والسعودية مليارات الدولارات في مشاريع التكنولوجيا والطاقة في الهند والصين وكوريا الجنوبية، وتتجه الاستثمارات كذلك نحو جنوب شرق آسيا، خصوصاً إندونيسيا وماليزيا، في مجالات التمويل الإسلامي والبنية التحتية والموانئ.

هذه التحركات لا تعني مجرد تنويع في الأسواق، بل بناء شراكات صناعية طويلة المدى تضمن للعرب موقعاً في اقتصاد المستقبل.

كما أن اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة، التي وقّعتها الإمارات مع الهند وإندونيسيا، تقدم نموذجاً ناجحاً للعلاقات التجارية التي تتحول إلى تحالفات استراتيجية قائمة على المصالح المشتركة.

أما أميركا اللاتينية فهي تشكل البعد الثالث في الجغرافيا الاستثمارية الجديدة؛ فقد وقّعت الإمارات اتفاقيات تعاون مع البرازيل وتشيلي وكولومبيا في مجالات الزراعة والطاقة النظيفة، وبدأت السعودية وقطر بدراسة فرص استثمارية لوجستية وغذائية طويلة الأمد، بينما تبني مصر والمغرب جسوراً جديدة مع دول الأطلسي اللاتيني لتوسيع صادراتها الصناعية.. لا يتعلق الأمر بمجرد تنويع الأسواق، بل بربط الجنوب العربي بالجنوب الأميركي في منظومة جديدة للتجارة والاستثمار، تضع العرب في قلب الاقتصاد الجنوبي الصاعد.

لكن التحول الأهم لا يقتصر على الجغرافيا، بل يمتد إلى الغاية من الاستثمار ذاته. لم يعد الهدف تحقيق العائد المالي فقط، بل بناء التأثير الايجابي وتعزيز الحضور الجيو–اقتصادي.

رأس المال العربي أصبح أداة للقوة الناعمة بقدر ما هو وسيلة للربح، تُستخدم لتأمين الموانئ والمطارات وخطوط الإمداد، وتوسيع شبكات التجارة جنوباً وشرقاً، والمشاركة في صناعات المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي والهيدروجين الأخضر والتقنيات الزراعية.. بهذا المعنى، تتحول الاستثمارات العربية إلى أداة سيادية تعيد صياغة المكانة الإقليمية للعالم العربي في النظام الاقتصادي العالمي.

ورغم قوة هذا التحول، لا تخلو التجربة من تحديات تحتاج إلى معالجة مؤسساتية، فغياب التنسيق العربي يجعل كل دولة تتحرك ضمن استراتيجيتها الخاصة، ما يحدّ من القدرة على تشكيل كتلة اقتصادية مؤثرة، كما أن ضعف البيانات المشتركة وغياب قواعد معلومات دقيقة حول الاستثمار الخارجي العربي، إضافة إلى التفاوت في الأطر القانونية والمؤسسية، يخلق فجوة بين الطموح والتأثير.

كذلك، ما زالت المنطقة بحاجة إلى دبلوماسية اقتصادية احترافية تدير هذا الزخم وتحوّله إلى سياسة متكاملة تربط بين الاقتصاد والسياسة الخارجية.

ومن أجل تعظيم هذا التحول، تبدو الحاجة ملحّة لتأسيس مجلس عربي للتكامل الاستثماري الخارجي يضم الصناديق السيادية والمؤسسات التنموية في الخليج وشمال إفريقيا، لتوحيد الرؤية وتبادل الخبرات في الأسواق الصاعدة، كما يمكن إطلاق قاعدة بيانات عربية موحدة للاستثمارات في الجنوب العالمي بالتعاون مع الإسكوا والأونكتاد، لضمان الشفافية ورفع كفاءة القرار.

وإلى جانب ذلك، يتعين على الدول العربية تعزيز شراكاتها مع التكتلات الإقليمية الكبرى مثل الاتحاد الإفريقي ورابطة الآسيان وأميركا اللاتينية عبر اتفاقيات شاملة جديدة، وتشجيع القطاع الخاص على الدخول في تحالفات عربية مشتركة بدل المنافسة المتفرقة.. والأهم هو إطلاق مبادرة عربية لتمويل التنمية في إفريقيا وآسيا برؤية تنموية مستدامة، تعيد للعرب دورهم التاريخي كجسر بين القارات لا كمستثمرين عابرين.

من واشنطن إلى نيروبي، ومن نيودلهي إلى ساو باولو، يتحرك رأس المال العربي بخطى واثقة نحو إعادة رسم موازين القوة الاقتصادية في العالم. إنها لحظة عربية جديدة لا تقتصر على تنويع المحافظ الاستثمارية، بل على إعادة تعريف مكانة العرب في النظام الاقتصادي الدولي.. فحين يصبح الاستثمار أداة للسيادة، والشراكة وسيلة للنفوذ، تتحول الجغرافيا من حدود سياسية إلى شبكة مصالح تمتد عبر القارات.. وفي هذا التحول العميق يولد الاقتصاد العربي الجديد: اقتصاد مرن، متنوع، عابر للمحاور، يرى في الجنوب مستقبلاً، وفي التعاون طريقاً إلى القوة.

Independent News

شاهد أيضاً

سمير زيتوني هو الأساس

مساءَ السبت الماضي كانَ من أمسيات الرعب، كما في أفلام القتلة المتسلسلين، في قطارٍ من …