لطالما كان الاستعداد للحروب تاريخيا أمرا معقدا بالنسبة للألمان”، هكذا تحدثت صحيفة “برلينر تسايتونغ” في تقريرها عن مدى استعداد شباب “جيل زد” اليوم للقتال من أجل ألمانيا في حال نشوب مواجهة عسكرية مع روسيا، إذ يرى خبراء أنها وشيكة أكثر من أي وقت مضى.
ومع إعلان المستشار الألماني فريدريش ميرتس عن الحاجة الملحة لتعزيز صفوف “البوندسفير” (الجيش الألماني) بتجنيد 80 ألف جندي إضافي، بهدف تلبية متطلبات حلف شمال الأطلسي (الناتو) والوصول إلى عتبة 260 ألف جندي المطلوبة، أصبح الحديث عن مستقبل الدور العسكري للشباب الألمان، وخاصة “جيل زد”، أكثر حضورًا. لم تعد تساؤلات الخبراء عن مدى التزام هذا الجيل تجاه الوطن، والفكرة المتزايدة بفرض خدمة التجنيد الإلزامي، نقاشات خافتة داخل دوائر ضيقة؛ بل تحولت إلى نقاشات علنية وملحة، بسبب تصاعد المخاطر الأمنية التي تحيط بألمانيا.
وتجد هذه النقاشات شرعيتها مع إقرار “معهد أوغسبورغ لأبحاث الأجيال” في دراسة حديثة له، بوجود صلات ضعيفة ومهتزة بين جيل زد وألمانيا وانخفاض الرغبة لديهم في الدفاع عن وطنهم، ما يطرح أسئلة خطرة عن الانتماء والروابط الوطنية. وتتساءل بدورها صحيفة “برلينر تسايتونغ” في تقريرها، ما إذا كان التجنيد الإلزامي المتوقع سينجح في دفع الألمان، بمن فيهم جيل الشباب، إلى التضحية بأنفسهم من أجل ألمانيا عندما تحل لحظة الحقيقة.
وفي تقدير الخبراء في ألمانيا، فإن نتائج الحرب العالمية الثانية لم تؤدِ إلى تفكيك الجيش الألماني فحسب، بل ألغت كذلك إلى حد كبير الجوانب العسكرية من الحياة العامة، ورسخت شعورًا لدى الشباب بحياة خالية من التجنيد الإجباري.
ويعزز هذا الشعور نتائج استطلاعات رأي حديثة تشير إلى أن 30% فقط في المتوسط من الشباب يؤيدون العودة إلى الخدمة العسكرية الإلزامية.
ويطرح الخبير روديغر، من منظور متخصص، تفسيرًا لهذا الانطباع العام، وهو أن جيل زد يُعتبر جيلًا “بينيا” في ألمانيا؛ إذ يأتي بين فترة فُرض فيها التجنيد الإجباري وفترة لاحقة يُتوقع أن تعود فيها الخدمة الإلزامية. ويعني هذا أن جيل زد هو الفئة العمرية الوحيدة التي لم تتعامل مع الخدمة الإلزامية ذهنيا أو جسديا، باستثناء إلزامية التعليم.
وسوسيولوجيا، يُلقى باللائمة في ألمانيا على إحاطة المجتمع وحمايته المفرطة لجيل زد، وهي سياسة أثرت بقوة، وفق الخبير الألماني، على نتائج الشباب التي شهدت تراجعا لافتا في السنوات الأخيرة لدى خريجي الثانوية العامة، كما جعلت النقاش الحالي حول التجنيد الإجباري محاطًا بأقصى درجات الحذر.
ولم يغفل الخبير، من ناحية أخرى، التأثير المباشر للسياق السياسي الحالي في ألمانيا، والذي تميز بانتشار الخطاب اليميني الشعبوي لحزب “البديل من أجل ألمانيا” المتطرف وتركيزه المتواصل داخل البرلمان (البوندستاغ) على الجانب السلبي -من وجهة نظره- للسياسات الحكومية في قضايا الهجرة وحرب أوكرانيا. الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تعميم حالة التحفظ من الخدمة العسكرية الإجبارية في صفوف الشباب، ولا سيما لدى القاعدة الشبابية لحزب البديل.
فجوات في الأولويات والقيم
لا تقتصر الفجوات بين جيل زد والدولة الألمانية على تحديد علاقة المواطن بالخدمة العسكرية ومعايير الانتماء، بل تتعداها إلى تحديد الأولويات في القيم الأخلاقية والاجتماعية، وفي مفهوم الوطن ذاته.
وبحسب التصنيفات التي قدمها رضوان قاسم، خبير الشؤون الألمانية ورئيس “مركز بروجين للدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية” في ليفركوزن للجزيرة نت، يمكن تفسير هذه الفجوات من النقاط التالية:
- ميل جيل زد أكثر إلى الفردانية والمادية وتكوين الثروات والاهتمام بالمستقبل مقارنة بالأجيال السابقة.
- ارتباط جيل زد بالتكنولوجيا التي كسرت الحدود بين الشعوب والدول وأضعفت قداسة الانتماء إلى الوطن الواحد.
- حولت وسائل التواصل الاجتماعي مفهوم الوطن لدى الغالبية العظمى من جيل زد إلى مفهوم نسبي، مع توسع دائرة العلاقات الافتراضية دون قيود جغرافية.
وتزداد الفجوات اتساعًا عند تقييم جيل الشباب لموقف بلادهم، ألمانيا، من الحرب في أوكرانيا؛ إذ يسود الانطباع لدى هذه الفئة العمرية، وفق تقدير الخبراء، أن ألمانيا تلقي بثقلها سياسيا وماليا واقتصاديا في حرب لا تعني شيئا لهذا الجيل، رغم الحجج الأمنية التي تقدمها الحكومة.
كما تعمل وزارة الدفاع على تطبيق الخدمة العسكرية الانتقائية، التي تهدف إلى تجنيد الشباب “الأصلح والأكثر ملاءمة والأكثر حماسًا” طوعًا باستخدام استبيان. وتتضمن الخطة خدمة عسكرية أساسية تستمر 6 أشهر، تليها فترة تدريب خاصة تصل إلى 23 شهرًا، وهي أيضًا تطوعية، ثم يتم وضع الخريجين في الاحتياط.
لكن الخبير المتخصص في السياسة الإقليمية، فلوفغانغ ساكسنرودر، يرى في تقرير حرره لصحيفة “برلينر تسايتونغ” أن مهمة الاستقطاب ستكون صعبة، بدليل أن طلبات الالتحاق التطوعية انخفضت منذ بداية حرب أوكرانيا، كما انسحب الجنود المؤقتون مبكرًا.
ولا توجد بيانات محدثة بشأن نسب إدماج المهاجرين في الخدمة العسكرية، بخلاف دراسة داخلية أجراها الجيش الألماني تعود إلى عام 2016، حيث تشير إلى أن 14.4% من الموظفين في الجيش لديهم أصول مهاجرة، مقابل 26% من المجندين، وهي نسبة مرتفعة نسبيًا مقارنة بعدد الألمان المنحدرين من أصول مهاجرة والحاملين لجوازات سفر ألمانية والمقدر بأكثر من 9 ملايين شخص من بين 84 مليون نسمة إجمالي تعداد سكان ألمانيا.
ومع أن “مركز التاريخ العسكري والعلوم الاجتماعية” في الجيش الألماني، الذي يجري مسوحات سنوية، قد قدم حديثًا بيانات متفائلة بشأن زيادة نسبة الشباب الراغبين في الخدمة في القوات المسلحة بـ10 نقاط مئوية مقارنة بعام 2021.
إلا أن الخبير روديجر ماس يقدم في هذه النقطة ملاحظتين أساسيتين:
- الزيادات في نسبة التطوع تعود إلى الإعلانات المتواترة عن الجيش الألماني على منصات سوشيال ميديا وعبر صناع المحتوى والمؤثرين، ولا تعود إلى قناعات متجذرة لدى الشباب.
- نتائج البحوث التي أشرف عليها ماس نفسه تشير إلى أن الغالبية العظمى ترفض التجنيد الإجباري رفضًا قاطعًا.
وتنقل صحيفة “برلينر تسايتونغ” عن مصادر أوكرانية تسجيل ما يفوق 213 ألف حالة فرار رسمية حتى الأول من يونيو/حزيران 2025. وفي العام الماضي، فُتح ما يقرب من 90 ألف دعوى جنائية جديدة، أي أكثر بـ3 مرات ونصف مقارنة بعام 2023، وأغلب هذه الدعاوى تتعلق بدفع رِشى لتجنب أوامر التجنيد. ومن جهة أخرى، تقدر جمعية “كونيكشن” التي تدعم الاستنكاف الضميري دوليًا (رفض الخدمة العسكرية لأسباب شخصية)، أن نحو ربع مليون مجند روسي غادروا روسيا.
ووفقًا للمكتب الاتحادي للهجرة في ألمانيا، قدم نحو 3500 من هؤلاء الروس طلبات لجوء في ألمانيا، ونحو 10 آلاف في الاتحاد الأوروبي، لكن الغالبية العظمى منهم رُفضت، بحسب تقارير ألمانية.
ولن يكون من المستغرب أن يرتد “الاستنكاف الضميري” إلى داخل ألمانيا نفسها، مع رفض غالبية جيل زد الانخراط في أي نزاع عسكري، وهو ما سيشكل عقبة كبيرة أمام تعهدات الحكومة والقيادات العسكرية بإعادة بناء أقوى “جيش تقليدي في أوروبا” تحسبًا لحرب محتملة في المستقبل القريب. وتاريخيا، شكل الفرار من الخدمة العسكرية مشكلة كبيرة للقيادات العسكرية في ألمانيا والاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية؛ إذ تشير الوثائق التاريخية إلى فرار ما بين 350 ألف و400 ألف جندي من “الفيرماخت” (القوات المسلحة الألمانية)، ونهاية مأساوية لنحو 30 ألف جندي صدرت بحقهم أحكام بالإعدام من القضاء العسكري.
فكيف ستتصرف ألمانيا المثقلة برواسب ماضيها العسكري، وتناقضات واقعها الحالي، في سبيل استعادة ريادتها القديمة والدفاع عن أوروبا هذه المرة؟
مجلة 24 ساعة