من مقولة للكاتب الإنجليزي ويليام جولدنج الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1983 ” في اللحظة التي تتحقق فيها البصيرة، ليست العين هي التي تبصر”.
***
نكمل الحكي عن عالم العميان، اصحاب نور البصيرة ذوو الفهم العميق والحكمة لنغوص فى عالم الاصرار على النجاح لأساطير الإبداع – فلكل شخص أعمى أسطورة – هل سمعنا عن (هيلين كيلر) الصماء العمياء التي حصلت على الدكتوراه في العلوم والفلسفة؟، هل نعجب من توماس ويجينز الذي وُلد أعمي فى أحد مزارع جورجيا ، الذي رغم كونه كفيفًا كان قلبه ، منذ طفولته معقودًا بالأصوات ، يجلس مستغرباً فى الإنصات لصوت الريح ، وقع المطر ، ومن زقزقة العصافير إلى هدير العواصف . اكتشف بالصدفة بيانو فى بيت سيدة من الجيران ، فى عمر الرابعة لامست أصابعه الصغيرة المفاتيح حتى انطلقت منها ألحان لم تُدرّس له ، بل خرجت من داخله ، مما أبهر الجميع بروعه عزفه على أصابع البيانو كمعجزة موسيقية ، عزف فى كبري القاعات بأمريكا وأوروبا ، قصته تظل درساً في قدرة النفس البشرية على الإبداع في أقصى الظروف ، ام طه حسين أحد كبار المفكرين العرب، ورغم الصعوبات التي مر بها والتي يأتي في مقدمتها فقدانه للبصر وفقره، إلا أنه تمكن من التفوق والنبوغ فمن تلميذ كفيف بالأزهر الشريف إلى وصوله لمنصب وزير المعارف “التربية والتعليم.
***
إنها حكايات لا تنتهي لأصحاب الطموح الذين هزموا إعاقتهم الجسدية بالعزيمة القوية، واستطاعوا تحقيق منجز ملموس بالموهبة والإبداع، وعلى طريق العباقرة الذين هزموا إعاقتهم ساروا، وعلى خطى المبحرين في دنيا الأمل والأمنيات حفروا دربهم الفسيح، واستلهموا الإبداع بنور البصائر.
أناس حٌرموا نعمة البصر ونور العين، لكنهم لم يحُرموا البصيرة، ونور القلب، وذكاء العقل، وفصاحة اللسان . منهم لويس برايل ” توفي عن 43 عاماً ” – مخترع برايل للمكفوفين – الأعمى الذى أضاء العالم للمكفوفين .. لويس برايل الطفل الصغير الذي فقد بصره فى سن 3 سنوات ، فكان الحادث سبباً في إضاءة حياة ملايين كانوا يعيشون في الظلام.
استطاع هذا الطفل في سن السادسة عشر من عمره، من خلال ابتكار لغة «برايل»، أن يحمل الخلاص لملايين المعاقين في هذه المعمورة. وعلى الرغم من روعة الابتكار، إلا أنه لم يكن مقبولا ولا معترفا به حينها، لكنه لم يتوقف يوما عن تعليم تلاميذه به، كما أنه حاول مرات عديدة أن يقدم مشروعه للأكاديمية الفرنسية، ولكنه كالعادة كان يقابل دائما بالرفض. ولم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل استطاع، بمساعدة أبيه، أن يبتكر آلة كاتبة للمكفوفين، فبات بوسع المكفوفين أن يكتبوا إلى جانب قدرتهم على القراءة .
***
ابتكار برايل أفاد العديد منهم الأديبة هيلين كيلر ” 88 عاماً ” التي وصلت لمنصب سفيرة المنظمة الأمريكية لفاقدي البصر ، وقد ولدت هيلين كيلر في مدينة توسكومبيا بالولايات المتحدة، وتعتبر إحدى رموز الإرادة الإنسانية، فبعد بلوغها التاسعة عشر شهراً اُصيبت بمرض التهاب السحايا والحمى القرمزية مما أفقدها السمع والبصر، تعلمت على يد المعلمة آن سوليفان التي قد مرت معها بمراحل متعددة لتعليمها الكلام بالإشارة والقراءة عن طريق برايل، وبدأت من خلال تعليمها معرفة الأشياء والإحساس بها عن طريق الكف، بالإضافة إلى تعليمها اللغة الإنجليزية فاستطاعت الحصول على شهادة فيها، واستطاعت كذلك دراسة الجغرافيا بواسطة خرائط صنعت على أرض حديقة منزلها حتي جعلتها تنطلق للعالم الخارجي وتعرفت على كل شيء حولها.
التحقت هيلين بمعهد كامبردج للفتيات وحصلت على بكالوريوس علوم الفلسفة، وذاعت شهرتها وبدأت في إلقاء المحاضرات وكتابة المقالات في الصحف والمجلات، و في أوقات فراغها كانت تتعلم السباحة والغوص وقيادة العربة ذات الحصانين و الخياطة، والتحقت بعد ذلك بكلية رادكليف لدراسة العلوم العليا فدرست النحو وآداب اللغة الإنجليزية، كما تعلمت اللغة الألمانية والفرنسية واللاتينية واليونانية، وحصلت على شهادة الدكتوراه في العلوم والفلسفة، وقد تم اختيارها لتولي منصب سفيرة المنظمة الأمريكية لفاقدي البصر بفضل مجهوداتها في الدفاع عن حقوق ذوي الإعاقة ،وقد ألفت ثمانية عشر كتاباً ،فرغم ما مرت به تعد من الشخصيات التي تمتعت بالإرادة القوية ولذلك سميت بـ”معجزة الإنسانية”.
***
.. ونأتي لفحلُ من فحولِ شعراء العصر العباسي أبو العلاء المعرّي شاعر الحكماء الملقب بالمعري نسبة لمعرة النعمان مسقط رأسه . ومن أقواله “أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر” بعد أن فقد بصره في الرابعة من العمر نتيجة مرض الجدري، فكان يقول لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأني لبست في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر لا أعرف غيره وقد أُبتُلي بيتمِ الأب فى صغره، وبعدها بعامين فقد أمه ، فلزم داره معتزلاً الناس مطلقاً على نفسه ” رهين المحبسين ” ، إلا أنّه اُخترقت هذه العزلة طلابه من أهل العلم ، لم يسلّم كاهله للعواصف المُوهنة ، ولم يعيقه فقدان والديه عن طلب العلم ، فّحمل آلامه ومضى وأبحر فى العلم ، فرهن نفسّه وحياَتَه لطلب العلم وتعليمه وطموحه نحو النبوغ ، درس فنون اللغة والأدب والحديث ، متلقٍّ علوم النحو واللغة على يد جماعة من اللغويين والنحاة ورحابة لطلب العلم إلى أنطاكية ، مما جعله يبدل وهنه بالقوة .
بدأ يقرض الشعر في الحادية عشر من عمره، ثم درس اللغة والأدب والشعر بحلب وأنطاكية، زاول مهنة الشاعر والفيلسوف حيث سافر إلى وسط بغداد وجمع عدداً من الطلاب للاستماع إلى محاضراته في الشعر والنحو.
كان أبو العلاء يتميز بذكائه المفرط والحافظة القوية، وعندما زار بغداد في عام 1007 استزاد من العلم من دور كتبها وعلمائها، وبعد عودته إلى بلده معرة النعمان بدأ في التأليف والتصنيف ملازماً بيته، ويعد كتاب “رسالة الغفران” من أجمل ما كتبه المعري في النثر، ومن أعظم كتب التراث النقدي، وقد قيل أن دانتي مؤلف كتاب الكوميديا الإلهية أخذ عن أبي العلاء فكرة كتابه ومضمونه.
***
الحكاية الثالثة عن مؤثر كفيف تأثر بالشاعر أبي العلاء المعري د. طه حسين ، سار على خطا المعري ، أخذ العمى بأيديهما إلى الإبداع ، وعبْر مجداف القلم الجارح ، وشارك أبا العلاء في ذكاء القلب وفى النبوغ والاعتداد بالنفس . اعتبر طه حسين أن المعري مثله الأعلى ، ووجد فيه شبهاً في الكثير من جوانب حياته وفلسفته.
رغم الصعوبات التي مر بها والتي يأتي في مقدمتها فقدانه للبصر وفقره، إلا أنه تمكن من التفوق والنبوغ فمن تلميذ كفيف بالأزهر الشريف إلى وصوله لمنصب وزير المعارف “التربية والتعليم ” وتولي عمادة الأدب العربي كأحد المفكرين العرب حتي فارقنا عام 1973 عن 84 عاماً .
طه حسين المولود بقرية الكيلود بمحافظة المنيا، أصيب بالعمى عندما كان في الرابعة من عمره، التحق بكُتاب القرية وحفظ القرآن الكريم، ثم بالأزهر الشريف لدراسة الدين واللغة العربية، ولما فتحت الجامعة المصرية أبوابها التحق طه بها ودرس بها العلوم العصرية والتاريخ والجغرافيا، وبعد أن حصل علي الدكتوراه ذهب في بعثة إلى فرنسا عام 1914، وبعد عودته لمصر عين أستاذاً للتاريخ الروماني واليوناني في الجامعة المصرية، وفي عام 1925 عينته وزارة المعارف أستاذاً فيها للأدب العربي، وأصبح عميداً لكلية الآداب عام 1928، وأصبح وزيراً ، قصة انتصارة على العجز ، ونجاحه فى الوصول ، وتحقيق الهدف رغم الإعاقة بالاعتماد على الإصرار والعزيمة عرضها فى سيراته الذاتية ” الايام ” .
…وسنعرضها فى مقال آخر ..