الرئيسية / صحافة ورأي / تأملات حول موقف نجيب محفوظ المتدرج من السلطة

تأملات حول موقف نجيب محفوظ المتدرج من السلطة

ابراهيم العريس
إبراهيم العريس
  باحث وكاتب

 

حين يقترب قارئ نجيب محفوظ من المرحلة الأخيرة من مشروعه الروائي، يكتشف أنه بات في حضرة كاتب تجاوز السياسة كموضوع مباشر لتناول السلطة وقضيتها بوصفها قدراً غامضاً يتسرب في شرايين الحياة نفسها.

لقد كانت السلطة وممارستها بصورة أكثر تحديداً في أعمال الكاتب المبكرة، محددة الملامح: ملك أو زعيم قوم أو مسؤول، كبير أو صغير فاسد، غير أنها في سنواته الأخيرة صارت شبحاً يسكن النفوس قبل أن يتجلى في المؤسسات. كأن محفوظ وقد تقدم به العمر، بات يرى في السلطة مرضاً اجتماعياً لا يعالج بالإصلاح بل بالوعي. لا بالمقاومة وحدها بل بالفهم.

ويمكننا رصد هذه النقلة الفكرية بدءاً من “الكرنك” (1974) إلى “أحلام فترة النقاهة” (2004). ففي هذه المسافة الزمنية الممتدة نحو ثلاثة عقود، كان محفوظ يعيد تعريف السلطة من كونها جهازاً قمعياً، إلى كونها علاقة مركبة بين الحاكم والمحكوم، بل الظالم والضحية، بل بين الإنسان وظله الداخلي.

ولئن كان النموذج الأبرز على هذا البعد الأخير يلوح خاصة في تحفة مرحلته قبل الاخيرة، “حضرة المحترم” (1975)، رواية البيروقراطية المصرية بامتياز، فإن الكاتب في “الكرنك” يبدو وكأنه يكتب عن القمع السياسي في أبسط تجلياته: أجهزة الأمن، الاعتقالات، التعذيب، الرقابة والخوف العام الذي يخيم على الناس في المقهى الرمزي الذي يحمل اسم الرواية.

غير أن القارئ المدقق لا يفوته أن يدرك أن محفوظ لا يكتب هنا عن ضابط الاستخبارات بقدر ما يكتب عن انهيار الثقة بين الناس. السلطة ليست هنا من يعذب بل هي أيضاً الخوف الذي يسكن العقول. حيث حتى الضحايا يحملون في جوانيتهم أثر السلطة، يراقبون أنفسهم ويتحدثون بلغة جلاديهم.

مع “المرايا” (1972) لا سيما مع “الحرافيش”، يتبلور هذا التحول بصورة أعمق. فكل شخصية هنا تعكس نوعاً من السلطة في تراتبية واضحة: سلطة الأب، سلطة المدرس، سلطة الحزب، الشهوة، المال بل حتى الذاكرة. الكتاب هنا أشبه بمرآة مهشمة يرى القارئ فيها أن السلطة ليست فوق الرؤوس فحسب، بل في داخل كل فرد.

أما في “الحرافيش”، تلك الملحمة التي كتبها محفوظ على مشارف الـ80، فإن السلطة تصبح قدراً يتناسل عبر الأجيال. من عاشور الناجي الأول إلى أحفاده، تتكرر الدورة نفسها، بطل يولد من الحارة، ينتصر، يصبح سيدها، ثم يتحول مع مرور الزمن إلى طاغية. هنا يبلغ محفوظ نضجه السياسي والفلسفي: كل سلطة مهما كانت نقية في البداية، محكوم عليها بالفساد لأنها تنفصل عن الأصل الشعبي الذي أنشأها. فمن يقرأ “الحرافيش” يجد نفسه أمام نسيج أسطوري تتقاطع فيه حكايات السلطة مع سؤال العدالة.

هنا لم يعد محفوظ معنياً بواقعية التاريخ بل بأسطوريته، وكأن الحارة التي بنى فيها عالمه منذ “زقاق المدق” في الأقل، قد تحولت إلى مختبر للقدر الإنساني. كل جيل في الرواية يكرر خطيئة الجيل السابق عليه، خطيئة التمرد الذي يتحول إلى حكم، والحكم الذي يتحول إلى ظلم، والظلم الذي يولد تمرداً جديداً… وهكذا.والحقيقة أن هذا البناء يذكر بما فعله السينمائي الإيطالي برتولوتشي في فيلمه “نوفتشنتو” إذ جعل الصراع الطبقي حراكات دائرية لا تنتهي. إلا أن محفوظ يبدو أكثر عمقاً في رؤيته. فبينما يرى المخرج الماركسي، أن الثورة هي الحل، يرى محفوظ أن الثورة نفسها، حين تتخذ شكل سلطة، تعيد إنتاج المأساة نفسها. ولهذا نجد أن “الفاتحة” و”الخاتمة” في “الحرافيش” تتشابهان كأنهما مرآتان متقابلتان. التاريخ يدور والناس لا تتعلم دروسه. السلطة في نهاية الأمر ليست خارجنا، إنها جزء من تركيبنا الإنساني.

مسرح “أفراح القبة”

حين كتب محفوظ روايته “أفراح القبة” في عام 1981 من بعد “عصر الحب” بعام وسابقة على “ليالي ألف ليلة وليلة” (1982)، والروايات الثلاث تكاد تشكل ثلاثية جديدة، إنما أكثر تواضعاً من تلك الثلاثية السابقة العظيمة، كان العالم العربي يعيش زمن الانفتاح والخيبات المتتالية بعد أزمنة النصر والهزيمة. لقد تحول المجتمع وتحول معه مفهوم السلطة. لم تعد السلطة السياسية وحدها في الواجهة بل ظهرت سلطات جديدة: سلطة الفن وسلطة المال، وسلطة الأخلاق الزائفة.

ومن هنا لم يكن صدفة أن “أفراح القبة” تدور داخل فرقة مسرحية، بيد أن المسرح نفسه يصبح هنا رمزاً للحياة الاجتماعية التي تعرض فيها الأكاذيب كحقائق. ويجسد المخرج في الرواية نموذج السلطة التي تملك “حق كتابة حيوات الآخرين”. فيفرض صاحب السلطة هذا رؤيته على الممثلين ويغير النص، ويحرف النيات، ليصنع “الحقيقة” التي يريدها. وهكذا تتحول السلطة من فعل قمع براني، إلى سلطة تأويل.

وفي هذا السياق يظهر محفوظ ككاتب ما بعد حداثي، يعترف بأن السلطة اليوم لا تقهر الجسد بل تسيطر على المعنى وعلى الروح بالتالي.

رواية اغتيال سياسي

في عام 1985 كتب محفوظ روايته السياسية الأكثر مباشرة، إذا نحينا “أمام العرش” التي تبدو أكثر غوصاً في السياسة إنما على شكل نزوة، وحتى “العائش في الحقيقة” ولكن هذه المرة على شكل نص في الخيال العلمي السياسي تبدو لنا، وحتى إشعار آخر على شيء من السماجة التجريبية.

المهم في “يوم قتل الزعيم”، يبدو محفوظ وكأنه يكتب رواية صغيرة عن اغتيال سياسي. لكن القصة أعمق من ذلك بكثير. فالزعيم هنا ليس رئيس البلاد، جمال عبدالناصر أو أنور السادات مثلاً، بل هو فكرة الزعيم نفسها، فكرة أن خلاص الأمة يأتي من فرد. وحين يقتل الزعيم، تتعرى الجماعة من وهم الأب الحامي، لتبدأ رحلة الفرد عارياً في مواجهة العالم. والسلطة التي كانت متمركزة في القصر انتقلت إلى الشارع، إلى كل بيت، إلى العلاقات اليومية.

وفي المقابل سنجد في “حديث الصباح والمساء” (1987)، أن ما يطالعنا ليس أقل من خلاصة التجربة كلها: رواية بلا بطل، بلا مركز، وبلا تسلسل زمني تقليدي. كل شخصية هنا تحكي جزءاً من الحكاية كأن محفوظ يخبرنا أن السلطة قد سقطت ولم يعد هناك من يمكنه أن يزعم امتلاكه للرواية كاملة. إنها رواية ما بعد الدولة، ما بعد الزعيم، ما بعد المركز. في عالمها الموزع يبدو الإنسان حراً، لكنه يبدو ضائعاً يبحث عن المعنى في غياب الراوي الكبير الذي كان يمثل في روايات محفوظ السابقة، النظام أو الدولة أو الأب.

بين من يحكم وكيف نحكم

بهذا المعنى إذا، كان محفوظ في كتاباته الأخيرة يمارس نقداً مزدوجاً: نقداً للسلطة السياسية في ظاهر النص ونقداً للسلطة الوجودية في باطنه. إنه لا يبرئ أحداً، ولا يحمل الذنب لفئة من دون أخرى. ففي “الكرنك” مثلاً كما في “الحرافيش”، بل في معظم أعمال مرحلتيه الأخيرتين حتى وإن لم يبد كذلك، لا سيما في “رحلة ابن فطومة” و”قشتمر” وربما أيضاً، ومهما بدا الأمر غريباً، في “الحب فوق هضبة الهرم”، يبدو لنا الحاكم والمحكوم ضحيتين من نسيج واحد: الأول يظلم لأنه خائف، والثاني يصمت لأنه متواطئ مع خوفه.

وفي نهاية المطاف يمكننا أن نقول إن هذا الموقف من السلطة لدى محفوظ إنما هو موقف أخلاقي لا أيديولوجي ولكن بأسلوب أكثر رمزية وأدنى إلى الفلسفة منه إلى السرد الواقعي الذي كان في الماضي قد ميز “الثلاثية” الكبيرة الأولى.

فمحفوظ لم يعد يهمه اليوم سؤال “من يحكم”، بل السؤال الآخر، سؤال “كيف نحكم أنفسنا”. مما يعني أن محفوظ بهذه القدرة بل الإرادة التعبيرية أغلق دائرته الكبرى حيث كانت البداية سؤالاً عن سلطة الآلهة لتغدو النهاية سؤالاً أكثر عمقاً عن سلطة الإنسان على نفسه.

Independent News

شاهد أيضاً

سمير زيتوني هو الأساس

مساءَ السبت الماضي كانَ من أمسيات الرعب، كما في أفلام القتلة المتسلسلين، في قطارٍ من …