
أستاذ الاستراتيجية وريادة الأعمال المشارك في كلية لندن لإدارة الأعمال
ينعقد مؤتمر الأطراف (كوب 30) في نوفمبر بمدينة بيليم البرازيلية، في مشهدٍ عالمي يتّسم بقدرٍ غير مسبوق من الغموض والتحديات، فعلى مدى عقود، استند العمل المناخي الدولي إلى ركيزةٍ أساسية مفادها أن التعددية قادرة على توحيد الدول على اختلاف توجهاتها ومصالحها، حول طموحٍ مشترك وقواعد منسقة وآلياتٍ منصفة للتمويل.
غير أن هذا الأساس يبدو اليوم موضع اختبارٍ حقيقي، فمع انسحاب الولايات المتحدة للمرة الثانية من مسار الالتزام المناخي، يبرز السؤال حول ما إذا كانت القوى الأخرى، مثل الصين والاتحاد الأوروبي والبرازيل واقتصادات مجموعة العشرين الكبرى، قادرةً على مواصلة قيادة هذا النظام، وقد نشهد، نتيجةً لذلك، ولادة نمط جديد من “الإقليمية المناخية”، تتقدم فيه الجهود من خلال تحالفاتٍ قطاعية وإقليمية تسير بوتيرةٍ متفاوتة، وفقاً لقدرات كل دولة وأولوياتها التنموية.
وفي هذا المشهد المتغير، هناك ثلاث قضايا رئيسية تستحق متابعة دقيقة خلال مؤتمر بيليم.
أولها هو الجيل الجديد من الخطط المناخية الوطنية، المعروفة باسم المساهمات المحددة وطنياً، والمقرر تقديمها هذا العام. فمؤتمر الأطراف (كوب 30) يشكّل نقطة مفصلية يُفترض أن تكشف فيها الدول عن التزاماتها الجديدة، التي سترسم ملامح المسارات المناخية حتى عام 2035، ولا يمكن التقليل من أهمية هذه الخطط، إذ إنها ستحدد وتيرة تحول الطاقة العالمي، وتؤثر في الطلب على التقنيات والاستثمارات، وتعيد رسم شروط عمل الشركات في مختلف القطاعات، ورغم الأهمية الكبيرة لهذه الخطط، فقد فوّتت العديد من الحكومات المهلة غير الرسمية التي حُددت في فبراير لتقديم خططها، ما يجعل الرهانات على مؤتمر بيليم أعلى من أي وقتٍ مضى.
أما القضية الثانية فهي تمويل المناخ، ففي مؤتمر الأطراف (كوب 29) في باكو، توصلت الحكومات إلى هدفٍ جماعي جديد يقضي بإطلاق تمويلٍ بقيمة 300 مليار دولار أميركي سنوياً بحلول عام 2035، ويبدو أن هدف الحكومات واضحٌ تماماً، ولكنّ آليات التنفيذ لا تزال ضبابية، وتدور التكهنات حول الجهة التي ستدفع المال، والتوقعات بشأن الميزانيات العامة مقابل رأس المال الخاص، والدور المرتقب للمؤسسات المالية الدولية، وستكون مصداقية مؤتمر بيليم مرهونةً، بشكلٍ جزئي، بقدرة الحكومات على وضع مسارات واضحة من شأنها تحويل مبلغ التمويل إلى تدفقاتٍ ماليةٍ حقيقية وقابلة للتنبؤ، بهدف دعم الحدّ من الانبعاثات، والتكيّف مع آثار التغير المناخي، وتعويض الخسائر والأضرار. أما بالنسبة للمستثمرين والشركات، فهذه التدفقات تمثل إشاراتٍ قوية تحدد أي المناطق والقطاعات ستجذب رؤوس الأموال، وأي المخاطر يمكن احتواؤها.
وتتمحور القضية الثالثة حول تحول الطاقة ومستقبل أسواق الكربون، وقد نجح مؤتمر الأطراف (كوب 28) في دبي بخلق دفعة سياسية مهمة تدعو إلى التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري، وفي بيليم، سيكون التركيز حول قدرة الحكومات على تحويل هذا الطموح إلى التزاماتٍ عملية ضمن خططها الوطنية، تشمل خفض الاعتماد على الوقود الأحفوري تدريجياً، وتوسيع نطاق الطاقة المتجددة، ومضاعفة كفاءة الطاقة، وتسريع الحد من انبعاثات الميثان، وفي الوقت نفسه، يُفترض أن تنتقل قواعد أسواق الكربون من مرحلة التفاوض إلى مرحلة التنفيذ، وسيكون مستقبل هذه الأسواق مرتبطاً بمدى صرامة معاييرها، وفعالية آليات الحماية فيها، وشفافيتها الكاملة، فإذا توفرت هذه الشروط، يمكن أن تصبح الأسواق أداةً حقيقية لتعزيز الطموح المناخي؛ أما إذا غابت، فستتحول إلى وسيلة جديدة لتأجيل العمل.
إن هذه القضايا ليست هامشية بالنسبة لعالم الأعمال والمال، فوضوح السياسات ضمن الخطط الوطنية يقلل مخاطر تحول الطاقة ويحدد آفاق الاستثمار، أما تعهدات التمويل الموثوقة، فتخلق مشاريع قابلة للتمويل، وتؤثر في تكلفة رأس المال، وتوجّه قرارات توزيع الموارد، كما أن قوة القواعد المنظمة لأسواق الكربون تؤثر في الآليات التي تنتهجها الشركات لوضع استراتيجيات تعويض الانبعاثات، وفي كيفية تقييم المستثمرين للأصول منخفضة الكربون، وفي الطريقة التي تدير بها سلاسل التوريد بصمتها الكربونية، وما سيصدر من إشارات في مؤتمر بيليم لن يقتصر أثره على أروقة المفاوضات، بل سيتدفق مباشرةً إلى غرف اجتماعات مجالس الإدارة ونماذج التمويل وقرارات الاستثمار.
وبالتالي، لا يُعَد مؤتمر الأطراف (كوب 30) مجرد قمة مناخية عادية، بل يمثل لحظة حاسمة تكشف مدى تمتع النظام الدولي بالتماسك والقدرة على توجيه مسار التحول العالمي نحو الاستدامة بطريقةٍ تنال ثقة الأسواق والحكومات والمجتمعات.
ومهما كانت نتائج المؤتمر في بيليم، فإن مسؤولية التقدّم لا تقع على عاتق الحكومات وحدها؛ إذ يمكن للعملية الدولية تحديد الاتجاه، لكنها ليست بديلاً عن القرارات والالتزامات التي تُتخذ يومياً داخل الشركات والمؤسسات، وعلى قادة الأعمال أن يواصلوا دفع عجلة الاستدامة قُدماً، حتى في ظل الشكوك والتقلبات السياسية.
ولتمكين هذه الجهود، أُقدّم في ما يلي عشر توصيات عملية لقادة الأعمال يمكن تطبيقها من الآن:
عشر خطوات داعمة يمكن اتخاذها الآن
1. يتعين استخدام المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة بمثابة عدسةٍ للرؤية الاستراتيجية المستقبلية، لا كغطاءٍ دعائي للسمعة. ويجب أن تكون الاستدامة أداةً تساعد الشركات على استشراف الاضطرابات المحتملة في الأنظمة، لا أن تخفيها وراء لغةٍ تسويقية. وعلى هذا النحو، فإن إعادة صياغة مفاهيم المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة تحت عناوين مثل “المرونة” أو “الغاية” لا تُجدي نفعاً إلا إذا تعمّقت الالتزامات الحقيقية وراءها. فليست القضية في التسمية، بل في ما تُعِدّ له الشركات نفسها من تحديات.
2. يجب عدم نسيان المواقف الحالية في المستقبل، فردود الأفعال المعارِضة تعالت أكثر فأكثر اليوم، ولكنّها حالة عابرة بالتأكيد وليست دائمة، كما أن التغير المناخي، وعدم المساواة، والتقلبات التنظيمية ليست مجرد توجهات عادية، بل هي قيود دائمة يجب التعامل معها، ولا يمكن اعتبار المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة أداةً للمكاسب الفصلية، بل لضمان البقاء ومواكبة التطورات لعقودٍ قادمة.
3. ينبغي تعزيز الوعي بالحوكمة في أعلى هرم القيادة؛ لأنه في حال لم يكن مجلس إدارة الشركة أو المؤسسة يفهم الاستدامة على أنها قضية استراتيجية، فهذه ثغرة تنظيمية جسيمة، ولذلك يجب تجاوز العروض التقديمية التقليدية، ومنح المديرين الأدوات اللازمة لطرح الأسئلة الصحيحة، وفهم المؤشرات غير المالية، والتعامل مع الموازنات المعقدة بين الربح والمسؤولية.
4. من الضروري أيضاً تقوية التحالفات الداخلية، إذا يستحيل أن تتحقق الاستدامة في عزلة عن مساعدة الآخرين، ويجب أن تتشارك الإدارات المختلفة المسؤولية القانونية لإدارة مخاطر الامتثال، والمسؤولية المالية لإعادة تخصيص رأس المال، والمسؤولية العملياتية لتنفيذ المبادرات، ولذا، يتعين تحديد أبطال التغيير داخل المؤسسة وتقديم الدعم الكامل لهم.
5. من المهم كذلك ربط الحوافز بالأداء المستدام، وذلك من خلال دمج الاستدامة في آلية اتخاذ القرار. فإذا ظهرت مبادئ المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في التقارير فقط دون أن تنعكس على تقييم الأداء أو الموافقات الاستثمارية أو المكافآت التنفيذية، فهي مجرد شعارات رنّانة عديمة الجدوى. أما التكامل الحقيقي فيبدأ من الجوانب التي يُكافأ عليها الأفراد.
6. من المجدي دمج الاستدامة في عملية اتخاذ قرارات تخصيص رأس المال، إذ إن التمويل يُظهر الأولويات الاستراتيجية على النحو الأمثل، ويجب أن تُوجه أولويات المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة قرارات الاستثمار، والمشاريع التي تحصل على الموافقات، وآلية إدارة الموازنات المعقدة على مستوى المحفظة الاستثمارية.
7. يجب التعامل مع الموازنات بوضوحٍ تام، وذلك من خلال التحلي بالصدق والشفافية بشأن ما يمكن وما لا يمكن للشركة تنفيذه، وكذلك الاعتراف بأن مكسباً محدداً قد تحقق بثمنٍ ما، فذلك يعزز المصداقية الداخلية ويقي المؤسسة من اتهامات التحايل أو الغسل الأخضر في المستقبل.
8. يتعين على الشركات مراقبة النظراء الذين يتراجعون والذين يواصلون الالتزام، إذ تكشف هذه المراقبة الكثير من الحقائق المهمة، فمثلاً، يجب متابعة الشركات التي تنسحب بصمت، والشركات التي تواصل العمل بثبات بهدوءٍ تام، والشركات التي تعيد بناء علامتها التجارية دون أي مضمون أو جدوى فعلية، بالإضافة إلى الجهات التي تضاعف جهودها بشكلٍ ملموس، إن هذه الأنماط ستُشكل ملامح المرحلة المقبلة للمؤسسة أو الشركة، ما يحتم عليها إدراك وضعها الراهن ومعرفة شركائها الحقيقيين.
9. ينبغي للشركات دمج الاستدامة في صميم عملها وجعلها جزءاً من الاستراتيجية الأساسية، لا مجرد إضافةٍ تجميلية. سواءً كانت الشركة مختصة في مجال الرعاية الصحية أو الخدمات المالية أو الصناعة أو التكنولوجيا، يتعين عليها ربط المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة بمقترح القيمة ونموذجها التشغيلي والمخاطر المحتملة في قطاعها.
10. في بيئةٍ متقلبة ودائمة التغير، تكون المصداقية أهم من الظهور الإعلامي، وبالتالي، يُنصح بعدم الفصاح عمّا لم تُنجزه الشركة بعد، وترك الأفعال تسبق الكلمات، والنتائج تتحدث عنها عندما يهدأ الصخب الإعلامي.
الدكتور يوانيس يوانو هو أستاذ الاستراتيجية وريادة الأعمال المشارك في كلية لندن لإدارة الأعمال، يُعد الدكتور يوانيس يوانو واحداً من أبرز الخبراء في مجال القيادة المستدامة والمسؤولية المؤسسية، وتوفر أبحاثه تحليلاتٍ ورؤىً قيّمة حول الفرص والتحديات التي تواجهها الشركات عند تطوير نماذج الأعمال المستدامة، ويتمتع الدكتور يوانو بمكانة مرموقة ضمن قائمة قادة الفكر في المجال، والتي اكتسبها نتيجة عمله الأكاديمي الحاصل على جوائز عديدة لدمج الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية بطرق استراتيجية في الأعمال، إلى جانب تركيزه على تعزيز المجتمع الاستثماري والأسواق المالية.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط، ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية
مجلة 24 ساعة