الرئيسية / صحافة ورأي / عصر التشريعات الديناميكية.. عندما تصبح القوانين أذكى من الأجهزة

عصر التشريعات الديناميكية.. عندما تصبح القوانين أذكى من الأجهزة

د. يسار جرار
د. يسار جرار
أستاذ كلية هولت للأعمال، الولايات المتحدة والمدير التنفيذي لـ Gov Campus

قبل أيام، أعلنت إيطاليا عن حدث قد يبدو في ظاهره قانونياً، لكنه في جوهره خطوة استراتيجية في رسم وادارة علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، فقد أصبحت أول دولة في الاتحاد الأوروبي تعتمد قانوناً وطنياً شاملاً ينظم الذكاء الاصطناعي.

في وقتٍ لا تزال فيه دول كثيرة تناقش “هل نحتاج أصلاً إلى تنظيم الذكاء الاصطناعي؟”، كانت روما قد سبقت الجميع وكتبت أول فصل في “تشريعات المستقبل”.  هذا القانون الإيطالي لا يشبه أي قانون آخر،  إنه ليس نصاً جامداً في الجريدة الرسمية، بل وثيقة حيّة، تتغير وتُحدّث باستمرار،  إنه ما يمكن أن نسميه “التشريع الديناميكي”، تشريع يتحرك بسرعة الخوارزميات نفسها.

نحن نعيش في زمنٍ لم يعد فيه الذكاء الاصطناعي مجرد أداة خلف الشاشات، بل أصبح شريكاً غير مرئي في قراراتنا اليومية، حين يرشّح لك تطبيق ما فيلماً لتشاهده على منصة بث، أو يقرر البنك خلال ثوانٍ ما إذا كنت مؤهلاً للحصول على قرض، أو تحدد منصة طبية احتمال إصابتك بمرض معين بناءً على بياناتك الحيوية، فهناك خوارزمية تعمل في الخلفية، تتعلّم عنك، وتفترض ما قد ترغب به، وأحياناً تقرر نيابةً عنك.

الأمر لم يعد مقتصراً على التكنولوجيا الترفيهية أو الخدمات المالية، الخوارزميات اليوم تسهم في تحديد من يُستدعى لمقابلة عمل، ومن يُمنح تأشيرة سفر، بل حتى من قد تراقبه الأجهزة الأمنية ضمن أولوياتها، لقد أصبحت تلك “القرارات الخفية” التي تتخذها أنظمة الذكاء الاصطناعي هي ما يشكل واقعنا اليومي دون أن ننتبه.

قد تبدو هذه القرارات صغيرة في ظاهرها —توصية بمطعم، إعلان موجّه، أو تقييم تلقائي في العمل— لكنها تتراكم لتخلق صورة كاملة عنك، تحدد فرصك، وتوجه اختياراتك، وتؤثر على حركتك في المجتمع والاقتصاد، وهنا تكمن الخطورة؛ هذه الأنظمة التي تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا لا تخضع في معظم الأحيان لأي قانون واضح، ولا يتحمل أحد مسؤولية ما تفعله الخوارزمية إن أخطأت.

نحن ببساطة أمام “سلطة جديدة” -سلطة البيانات والخوارزميات- التي لا يمكننا رؤيتها أو محاسبتها بسهولة، ولهذا فإن خطوة إيطاليا في تنظيم الذكاء الاصطناعي ليست مجرد تشريع تقني، بل إعلان سيادة إنسانية في عصر تحكمه الآلات.

القانون الإيطالي جاء ليضع حداً لهذه الفوضى، فهو لا يحارب الذكاء الاصطناعي، بل يضع له إطاراً أخلاقياً وإنسانياً، يلزم بأن تكون الرقابة البشرية جزءاً لا يتجزأ من كل نظام ذكي، ويمنع استخدام الذكاء الاصطناعي في أي نشاط يهدد الحقوق أو الكرامة أو المساواة.

فمثلاً، لا يمكن لمحكمة أن تستخدم الذكاء الاصطناعي لإصدار أحكام قضائية، لكنه يمكن أن يساعدها في تحليل الملفات، ولا يمكن لمستشفى أن يترك آلة تتخذ قرارات علاجية دون إشراف الطبيب، ولا يمكن لشركة أن تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقييم موظفيها بطريقة تمس كرامتهم.

بهذه الطريقة، تحاول إيطاليا أن تعيد رسم العلاقة بين الإنسان والخوارزمية، بحيث تبقى الآلة في خدمة الإنسان، لا العكس.

الخطر الخوارزمي.. جريمة جديدة

من أعظم ما في هذا القانون أنه يعترف رسمياً بنوع جديد من الجريمة؛ الضرر الخوارزمي، فاليوم يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصنع مقاطع فيديو مزيفة لسياسيين أو رجال أعمال وهم يقولون ما لم يقولوه، بدقة تامة، قبل عامين انتشر مقطع فيديو مزيف للممثل توم كروز وهو يلعب الغولف، بدا حقيقياً لدرجة أن كثيرين لم يشكّوا للحظة أنه من إنتاج آلة، إيطاليا تقول الآن: من يستخدم الذكاء الاصطناعي لتزييف الحقيقة فسيواجه السجن لسنوات.

ولأن الإبداع أيضاً في خطر، نصّ القانون على أن الأعمال الفنية أو الأدبية المنتجة بمساعدة الذكاء الاصطناعي لا تُعتبر ملكاً فكرياً إلا إذا كان للإنسان فيها جهد أصيل، بمعنى آخر إذا ساعدتك الخوارزمية، فمرحباً؛ أما إذا كتبت هي العمل بالكامل، فالقانون لا يعترف بها كمؤلفة.

تشريعات حية.. ومليار يورو للمستقبل

إيطاليا لم تكتفِ بالكلام، أنشأت هيئتين وطنيتين لمراقبة الذكاء الاصطناعي؛  إحداهما تشرف على الابتكار، والأخرى تحمي الأمن السيبراني، والأهم أنها خصصت مليار يورو لتطوير أبحاث الذكاء الاصطناعي وتقنيات الكم، بهذا ربطت روما القانون بالتنمية، والرقابة بالاستثمار؛ فالتنظيم وحده لا يكفي، كما أن الابتكار بلا أخلاق قد يكون أخطر من غيابه.

ما قامت به إيطاليا يجب أن يكون رسالة لكل الحكومات؛ الذكاء الاصطناعي ليس ملفاً تقنياً يُترك للخبراء، بل قضية وطنية يجب أن تُنظمها قوانين واضحة، مرنة ومتجددة، فكما تُراجع الحكومات ميزانيتها كل عام، يجب أن تُراجع قوانينها أيضاً، القوانين التي لا تتغير تصبح مثل البرامج القديمة التي لا تعمل على الأجهزة الحديثة، نحن اليوم بحاجة إلى تشريعات “حية”، تُحدّث سنوياً، تراعي التطور السريع في الذكاء الاصطناعي والروبوتات و”الذكاء العام الصناعي” (AGI).

ما نراه الآن هو مجرد البداية؛ قريباً ستصبح الأنظمة قادرة على التفكير الذاتي واتخاذ قرارات أكثر تعقيداً، وحين تصل الآلة إلى هذه المرحلة يجب أن تكون الحكومات جاهزة، لا متأخرة بخطوتين.

التجربة الإيطالية لا تهم أوروبا فقط، بل العالم كله، خصوصاً منطقتنا العربية؛ دول مثل الإمارات والسعودية وقطر تمتلك بنية رقمية متقدمة ورؤية جريئة للمستقبل، ويمكنها أن تقود العالم في وضع “قوانين ذكية” تنظم العلاقة بين الإنسان والآلة، تماماً كما تقود اليوم في استخدام الذكاء الاصطناعي في الحكومة والخدمات.

إذا كانت الثورة الصناعية قد غيّرت شكل المصانع، فإن ثورة الذكاء الاصطناعي تغيّر شكل الدول نفسها، والدول التي لا تواكب هذه التحولات في تشريعاتها ستكتشف يوماً أنها أصبحت تحكم بأدوات من القرن العشرين في عالمٍ تديره خوارزميات من القرن الحادي والعشرين.

اليوم نحن على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخ الإنسانية، مرحلة تسأل فيها الحكومات نفسها: هل قوانيننا جاهزة لعالمٍ تُفكر فيه الآلات؟  دخلنا في عصر التشريعات الديناميكية.. حيث يجب أن تتطور القوانين بسرعة الذكاء الاصطناعي نفسها.

شاهد أيضاً

سمير زيتوني هو الأساس

مساءَ السبت الماضي كانَ من أمسيات الرعب، كما في أفلام القتلة المتسلسلين، في قطارٍ من …