تحظى القديسة تريز بحب وشهرة في مصر بين المسيحين والمسلمين على حد سواء، إذ يتوافد على كنيستها في حي شبرا في القاهرة، العديد من الراغبين في التبرك بها والتضرع لله في هذا المكان الذي يفتح أبوابه للجميع دون تفرقة، كما أنها القديسة الوحيدة التي أطلقت السلطات المصرية اسمها على إحدى محطات مترو الأنفاق الحيوية القريبة من كنيستها، “محطة سانت تريز”.
ويلفت نظر الداخل إلى كنيستها في شبرا لوحات رخامية يطلق عليها اسم “اللوحات النذرية” تغطي جدران القبو، والتي صممها ووضعها محبوها من كل الجنسيات واللغات، من بينهم مشاهير مصريون تعبيراً منهم عن شكر خاص وشهادة اعتراف بمحبتهم لها، ومن أشهر تلك اللوحات الرخامية لوحة تحمل اسم العندليب الأسمر، عبد الحليم حافظ، مكتوب عليها “إلى روح القديسة الطاهرة القديسة تريزا مع شكري العميق عبد الحليم حافظ 1957م”. وعن سر هذه اللوحة النذرية تقول رواية ذكرها الكاتب الفني أشرف غريب، في حوار له مع مجلة روزاليوسف المصرية في 2022، إن عبد الحليم حافظ عندما كان في رحلة علاجية في لندن عام 1956، “رأى في حلم ذات يوم سيدة نورانية أخبرته بأنه سوف يشفى من آلامه وسوف يتجاوز أزمته الصحية التي كان يعاني منها في ذلك الوقت، ثم مررت يدها على كبده وهو مندهش وسألها ما اسمها قالت له اسمي تريز”.
وتضيف الرواية أنه “في الصباح طلب من الأطباء المعالجين إعادة الكشف عليه وإجراء التحاليل والأشعة وعندما ظهرت النتيجة اندهش الأطباء واعتقدوا انهم أخطأوا التشخيص، ولكنه قال لهم أنا أعلم ما حدث”، وتخليداً منه لهذه الذكرى وهذا الحلم وضع لوحة رخامية تحمل شكره إلى الآن يراه كل من يزور كنيستها في شبرا.

لوحة شكر رخامية تحمل اسم العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ مهداة للقديسة تريز الطفل يسوع في كنيستها في حي شبرا في القاهرة
***
حين أموت سأرسل من السماء أمطاراً من الورود على الأرض، سأقضي سمائي بفعل الخير على الأرض”، عكست القديسة تريز الطفل يسوع الوجه الأقدس، الملقبة بـ “وردة المسيح الصغيرة”، بهاتين العبارتين في حواراتها الأخيرة قبل وفاتها، روحانية عميقة، ورغبة مستمرة في خدمة النفوس بلا حدود، وهو ما جعل تأثير هذه القديسة الفرنسية صغيرة السن يتخطى حدود العقائد الدينية ليلمس القلوب في شتى أرجاء العالم.
ألهبت كتابات تريز البسيطة عن “محبة الله” مشاعر كل من قرأها، فوجد فيها المسيحيون نموذجاً حياً للقداسة اليومية، ورأى فيها غير المسيحيين صورة نقيّة للإنسان الممتلئ حباً وسلاماً وصدقاً، فأصبحت رمزاً إنسانياً يحمل رسالةً عن “معرفة الله من خلال الثقة البسيطة والحب المتواضع”.
وعلى الرغم من رحيلها المبكر عن هذا العالم، في عمر 24 عاماً فقط، تركت تريز وراءها إرثاً روحياً عميقاً، تجلّى في تعاليم رسمت درباً إيمانياً أُطلق عليه اسم “الطريق الصغيرة” نحو القداسة، وهو طريق روحي قائم على الثقة الكاملة بالله، وممارسة الأعمال اليومية الصغيرة بمحبة فائقة، فأصبحت واحدةً من أكثر القديسين المحبوبين، ويحمل اسمها ما يزيد على 700 كنيسة في العالم، وتُكرَّم في الكنيسة الجامعة كمعلّمة روحيّة، وتعد شفيعة فرنسا الثانية بعد القديسة جان دارك (1412-1430).
ومؤخراً، أثارت صورة “زهرة بيضاء” وُضعت على قبر البابا الراحل فرنسيس، كثيراً من التساؤلات والتأملات: هل هي تلميح رمزي إلى “وردة المسيح الصغيرة”؟ ورغبة لإبراز عمق صلة البابا وتأثره بالقديسة تريز في حياته وخدمته البابوية؟ وبدون شك، أسهمت رمزيّة تلك “الزهرة البيضاء” في تحريك القلوب، وأيقظت في الأذهان حضور القديسة تريز في عالم مضطرب مليء بالحروب والآلام، بلغةٍ لا تعرف إلا الحب، في الذكرى المئوية لإعلان قداستها هذا العام. دأب البابا الراحل فرنسيس، طوال حياته وسنوات حبريته، على إبراز علاقته العميقة بالقديسة الكرملية تريز الطفل يسوع، التي كان يودع بين يديها مشاكله مناشداً إياها، “أن تحملها بين يديها وتساعده على قبولها”.

وكان البابا حريصاً على وضع “زهرة بيضاء” على منضدة في شقته الخاصة في بيت القديسة مرتا، كرمز لعلاقته الوثيقة بالقديسة تريز، التي لجأ إليها مراراً من أجل بركتها وسط آلامه وآلام الآخرين، واليوم توضع “زهرة بيضاء” أخرى على قبره بجوار اسمه، في قلب بازيليك مريم الكبرى، والتي “لم تكن لفتة فنية بقدر ما كانت امتداداً لخط وفاء ومحبة” بينهما.
ظلت الزهور البيضاء رفيقة البابا الراحل طوال مسيرته، وتحدث عنها في كتاب حوارات “الكاهن اليسوعي”، إذ وصف صحفيان مكتبة هذا الكاردينال آنذاك بأنها تضم “مزهرية مليئة بالزهور البيضاء”، موضوعة أمام صورة للقديسة تريز، وفسّر وقتها قائلاً: “عندما تواجهني مشكلة، لا أطلب من القديسة أن تحلّها لي، بل أن تحملها بين يديها وتساعدني على قبولها. وعادةً أتلقى إشارة، في شكل زهرة بيضاء”، بحسب الفاتيكان.
والسؤال، من أين جاءت رمزية “الزهرة البيضاء” لحياة القديسة تريز؟ تكمن الإجابة عن هذا السؤال في 29 مايو/أيار عام 1887، عندما أفصحت تريز لأبيها، في حديقة البويسُّونيه، عن سر رغبتها في حياة الرهبنة ودخول الدير، ورغم اعتراضه على صغر سنها، نجحت في إقناعه، فقطف زهرة وقدّمها لابنته، وقال لها: “هذه الزهرة البيضاء رمز لحياتك كلها”. وتؤكد تريز نفسها اعتزازها بهذه الرمزية التي احتفظت بها طوال حياتها، ونجدها تستهل كتابة سيرتها “قصة نفس” وتقدمها بـ “قصة زهرة صغيرة بيضاء ربيعية كتبتها بيدها وأهدتها إلى الأم المحترمة أنييس ليسوع”، كما تختتم المخطوطة (أ) من سيرتها وهي تسأل، مشيرةً إلى نفسها: “كيف ستنتهي قصة هذه الزهرة الصغيرة البيضاء؟ هل تُقطف الزهرة الصغيرة وهي يافعة، أم تُنقل إلى شواطيء أخرى… إني أجهل ذلك. ولكن ما أعلمه علم اليقين هو أن رحمة الله سترافقها دوماً”.
ويشير موقع الفاتيكان إلى أنه في شهر سبتمبر/أيلول عام 2013، في بداية فترة حبرية البابا فرنسيس، عندما دعا إلى أمسية صلاة في ساحة القديس بطرس من أجل السلام في سوريا، تُليت مقاطع من قصائد نظمتها القديسة تريز خلال الصلاة، وعند عودته إلى مقر إقامته، تلقى البابا هدية مفاجئة من بستاني عبارة عن “زهرة بيضاء” قُطفت لتوها من حدائق الفاتيكان كما كرس البابا فرنسيس “إرشاده الرسولي” السابع خلال حبريته، للقديسة تريز، والذي نُشر تحت عنوان “إنها الثقة“، بمناسبة الذكرى الـ 150 لميلادها، وأيضاً الذكرى المئوية لتطويبها، استعرض فيه البابا “عمق العبقرية الروحية واللاهوتية” للقديسة تريز التي طالما تمنى أن تكون رفاتها، وكذلك رفات والديها، لويس وزيلي مارتان، حاضرة في قلب ساحة القديس بطرس، وهو يلقي تعاليم دينية ويقدّم القديسة كمثال عليها.
قال البابا في إرشاده الرسولي متحدثاً عن القديسة تريز: “في زمنٍ يشجعنا على الانغلاق على مصالحنا الذاتية، تقدم لنا تريز مثالاً على جمال كيف نجعل الحياة هبةً تُقدم للآخرين.. في زمن انطوى على الفردية، تكشف لنا تريز قيمة المحبة المتجسدة في الشفاعة للآخرين. في زمن افتُتنت فيه البشرية بالعظمة وأشكال السلطة الجديدة، ترشدنا تريز إلى طريق الاتضاع. في زمن يُهَمّش فيه كثيرون، تعلمنا تريز فضيلة اليقظة ورعاية الآخرين. في زمن مليء بالتعقيد، تساعدنا تريز على إعادة اكتشاف البساطة، ووضع أولوية مطلقة للمحبة، والثقة، والتسليم لله .
مجلة 24 ساعة