لقد استهل زمن التغيير الاقتصادي الذي يقوده الذكاء الاصطناعي، وفي مايو (أيار) 2025 أعلنت شركة “آي بي أم” IBM أنها طردت مئات الموظفين وأحلت مكانهم روبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، وأثناء الصيف صرفت شركة “سيلزفورس” Salesforce أعداداً كبيرة من العاملين بفضل الذكاء الاصطناعي. وكذلك تعمل مؤسسات “يو بي أس” UPS و”جي بي مورغان تشايس” JPMorgan Chase و”ويندي” Wendy على اقتطاع عدد العاملين فيها ضمن عملها على أتمتة مزيد من الوظائف، ويعاني المتخرجون الجدد زمناً تتزايد فيه صعوبة العثور على وظائفهم الأولى بأكثر مما كانت عليه تلك الحال قبل 10 أعوام، ولا تمثل تلك الميول والاتجاهات سوى البداية.
وفي استطلاع مسحي تلو الآخر، أوردت مؤسسات عبر العالم أنها تخطط لاستعمال الذكاء الاصطناعي بغية إحداث تغيير في القوى العاملة فيها، ومن المرجح أن يعمل الذكاء الاصطناعي على تكوين فرص توظيف جديدة حتى مع كل الاضطراب الذي يحدثه في الوظائف الموجودة فعلياً، وليس من توافق بين خبراء الاقتصاد عن المحصلة التي ستنجم عن خسارة الوظائف أو ربحها أو حتى إعادة هيكلتها، وفي المقابل وبغض النظر عن ماهية التداعيات الطويلة الأمد، فلسوف يضحي الذكاء الاصطناعي قريباً قضية سياسية كبرى، وإذا أثار اضطرابات وازنة فسيجد المسؤولون أنفسهم حيال مواجهة مع عمال يتقدون غضباً بسبب خسارة أعمالهم لمصلحة الذكاء الاصطناعي، ولسوف يعلي الناخبون صوت إحباطاتهم عبر صندوق الاقتراع، وبالتالي يجب على الساسة المسارعة إلى استنباط خطط لحماية جمهور ناخبيهم.
وسعياً إلى تكوين إستراتيجية فاعلة للتعامل مع الاضطرابات الكبرى التي يثيرها الذكاء الاصطناعي، يحتاج صناع السياسة إلى فهم الكيفية التي يفهم بها العمال التهديد التكنولوجي، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 أجرينا استطلاع رأي مسحي شمل 6 آلاف أميركي وكندي طلب منهم إعطاء تقييمهم لمستوى القلق في شأن الصرف الجماعي من العمل التي يحفزها الذكاء الاصطناعي، وكذلك رأيهم في الكيفية التي يجب أن تتعامل بها الحكومات مع تلك القضية.
وكشفت النتائج عن حجم التحدي، فقد صنّف المشاركون خوفهم من فقدان وظائفهم لمصلحة الذكاء الاصطناعي على رأس قائمة المخاوف المرتبطة بهذه التقنية، متقدماً حتى على استخدامها العسكري المحتمل.
وعلى صعيد السياسات فهناك ما يدعو إلى التفاؤل والتشاؤم في آن واحد، فمن جهة أيد معظم المشاركين إجراءات مثل برامج إعادة التدريب وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي، وهي حلول تقنية يعتقد الاقتصاديون أنها فعالة، ومن جهة أخرى أيد كثر أيضاً فرض قيود تجارية جديدة وحواجز على الهجرة، وهي إستراتيجيات قد تؤدي إلى تفاقم المشكلة، وقد تلجأ إليها الحكومات لأسباب سياسية، فقد استجابت دول عدة سابقاً لتسريحات العمال الناتجة من نقل الوظائف إلى الخارج بفرض رسوم جمركية قاسية وزيادة الترحيل، على رغم أن أياً من هذه الأساليب لم ينجح، وإذا كانت الحكومات جادة في حل المشكلة وتجنب موجة جديدة من الغضب الشعبوي، فعليها أن تبدأ الآن في تنفيذ الحلول الصحيحة قبل أن تتسارع وتيرة تسريحات الذكاء الاصطناعي، بينما لا تزال الحلول الفعالة تحظى بدعم واسع.
النظرية والتطبيق
ولفهم كيف يريد الناخبون من الحكومات التعامل مع تسريحات العمال الناتجة من الذكاء الاصطناعي، لم نكتف باستطلاع بسيط بل قمنا بإعداد 81 سيناريو مختلفاً يتناول تبني الذكاء الاصطناعي أو نقل الوظائف إلى الخارج، إذ تتفاوت آثار الصدمة الاقتصادية على التوظيف والأسعار، ففي أحد السيناريوهات خفّض الذكاء الاصطناعي أسعار الهواتف الذكية 50 في المئة، لكنه ألغى 25 في المئة من وظائف المصانع وخلق في المقابل 25 في المئة من وظائف علوم البيانات، وفي سيناريو آخر بقيت الأسعار على حالها، بينما انخفضت وظائف خدمة العملاء 25 في المئة، وظلت وظائف المصانع ثابتة.
وعرضنا على المشاركين أربعة سيناريوهات عشوائية وقدمنا لهم قائمة بالسياسات المحتملة: برامج إعادة التدريب، توسيع شبكات الأمان الاجتماعي، تنظيمات لضبط الصدمة الاقتصادية (سواء كانت ناتجة من الذكاء الاصطناعي أو نقل الوظائف)، قيود تجارية، وحواجز على الهجرة، ثم سألناهم عن مدى دعمهم لكل سياسة وقد طُلب من كل مشارك تقييم سيناريوهات الذكاء الاصطناعي أو نقل الوظائف فقط، وليس كليهما، مما أتاح لنا مقارنة ردود الفعل تجاه التغيير التكنولوجي المحلي في مقابل المنافسة الأجنبية ومعرفة ما إذا كانت التضحيات الاقتصادية المتشابهة تؤدي إلى تفضيلات سياسية متشابهة.
النتائج كانت واضحة، بغض النظر عن الانتماء الحزبي، وفضّل المشاركون في كلا البلدين سياسة إعادة تدريب العمال، وبلغ متوسط الدعم (4) من (5)، إذ تمثل (1) معارضة شديدة و(5) دعماً قوياً، وجاء تنظيم الذكاء الاصطناعي في المرتبة الثانية من حيث الشعبية، بدعم واسع عبر الطيف السياسي، أما توسيع الإنفاق الاجتماعي فحل ثالثاً لكنه حظي بدعم أقل بين الجمهوريين في الولايات المتحدة وأقل قليلاً بين المحافظين في كندا.
هذه النتائج تبعث على التفاؤل، فلو سألت الاقتصاديين عن السياسات المثلى لمواجهة تسريحات الذكاء الاصطناعي لأوصى معظمهم بإعادة التدريب والتنظيم والتأمين الاجتماعي، والمنطق بسيط: التغيير التكنولوجي يمكن إبطاؤه لكنه شبه مستحيل أن يُوقف، لذا فإن أفضل ما يمكن للحكومات فعله هو تزويد المواطنين المتضررين بمهارات جديدة ووضع ضوابط عقلانية وتوفير دعم بطالة جديد، لكن المشكلة أن الحكومات نادراً ما تطبق هذه السياسات فعلياً، ففي مواجهة صدمات اقتصادية سابقة، مثل فقدان وظائف التصنيع بسبب التجارة، لم تقم معظم الدول بإنشاء أنظمة تدريب واسعة النطاق، أما على صعيد التنظيم فالصورة قاتمة أيضاً، فعلى رغم طفرة الذكاء الاصطناعي لم تصدر سوى قلة من الحكومات تشريعات شاملة في شأنه، باستثناء “قانون الذكاء الاصطناعي” في الاتحاد الأوروبي، وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي يبدو أقل احتمالاً، خصوصاً في ظل تفاقم الديون الحكومية، بل إن واشنطن بدأت بالفعل في تقليص البرامج الاجتماعية، بما في ذلك التأمين الصحي العام والمساعدات الغذائية، ضمن مشروع الإنفاق الذي وقعه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في يوليو (تموز) الماضي.
وربما يعقد المتفائلون آمالهم على أن تؤدي زيادة الاضطرابات المتأتية من الذكاء الاصطناعي إلى تحفيز صناع السياسة على الاستثمار في تبني سياسات المحافظة على الوظائف والبرامج الاجتماعية والتشريعات التنظيمية أو أية مجموعة من تلك الخيارات، لكن التاريخ يشير إلى أن الضغط من أجل التنظيم والتعويض قد يتراجع مع مرور الوقت، ففي حالات التغيير الاقتصادي يواجه السياسيون مشكلة يطلق عليها علماء الاجتماع تسمية “عدم الاتساق الزمني”، وقبل التبني الواسع لأحد التكنولوجيات التغييرية، أو توقيع معاهدة تجارية ما، يكون لدى المستفيدين المحتملين حوافز قوية لتقديم وعود بالتعويض للمتضررين لضمان الدعم السياسي، لكن بعد التنفيذ تتلاشى تلك الحوافز ويصبح التراجع عن التغيير مكلفاً للغاية على خزنة الدولة، وتتحول موازين القوة لمصلحة الرابحين الذين لم يعودوا بحاجة إلى إرضاء الخاسرين، والنتيجة تواهن تمويل شبكات الأمان أو تنفيذها بصورة ضعيفة أو الاستغناء عنها بالكامل.
وعد زائف
الخطر الأكبر لا يكمن في تجاهل الحكومات للحلول الفعالة بل في تبنيها لسياسات قد تأتي بنتائج عكسية، وكثير من السياسيين، خصوصاً من التيار الشعبوي اليميني، قد يستجيبون للتسريحات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي عبر فرض قيود على الهجرة والتجارة، تماماً كما فعلوا في أزمات اقتصادية سابقة، وإذا فعلوا ذلك فستتضح المحاججة بصورة مباشرة، وإذا لم تستطع الحكومة حماية الناس من منافسة الروبوتات، ففي الأقل ستنهض بذلك حيال المنافسة الأجنبية، وفي المقابل لا يصمد هذا المنطق الصفري [ما يكسبه طرف يخسره آخر] في الممارسة على الأرض، ومن الناحية الافتراضية تقترح البحوث كلها أن تقييد الهجرة والتجارة لن يوقف الشركات عن تبني الذكاء الاصطناعي بل قد يؤدي ذلك إلى تسريع صرف العاملين من وظائفهم.
ومثلاً يؤدي خفض التجارة إلى زيادة كُلف الإنتاج ويقلص أسواق التصدير ويرفع مستوى سياسة عدم التيقن وانعدام الأمان، وبالتالي تُوصل تلك الأمور كلها إلى زيادة جاذبية التقنيات التي تدعم الاستغناء عن الأيدي العاملة في الصناعات المهددة بالتأثيرات السلبية لخفض التجارة، وكذلك يفضي تقيد الهجرة إلى تشجيع استعمال الذكاء الاصطناعي بسبب ارتفاع كلفة الأيدي العاملة.
ويمكن للمحللين محاولة توضيح هذه النتائج المحتملة للناخبين، لكن السياسات الحمائية تحظى بشعبية كبيرة في استطلاعات الرأي، ويدعمها عدد كبير من الناس كاستجابة لصدمات الذكاء الاصطناعي، وفي استطلاعنا بلغ متوسط الدعم لقيود الهجرة (3.4) من (5)، بينما بلغ الدعم لقيود التجارة (3.2)، وكان الدعم بين الجمهوريين لقيود الهجرة أعلى بكثير بمتوسط 4.0، مما جعلها السياسة الأكثر شعبية لديهم، متفوقة حتى على برامج إعادة التدريب، أما قيود التجارة فبلغت (3.5)، وهو مستوى قريب من دعم إعادة التدريب، وأعلى بكثير من دعم الإنفاق الاجتماعي، وإذا استمرت تسريحات الذكاء الاصطناعي في الارتفاع فقد تكون هذه الأرقام مجرد بداية.
وثمة أسباب أخرى قد تميل بالساسة إلى تبني سياسات إقصائية، ويتمثل أحدها بانخفاض نسبي في الحواجز أمام تنفيذ ذلك النوع من الإجراءات، وتوخياً لإرساء وتمويل برامج إعادة التدريب، أو سن تشريعات تنظيمية على الذكاء الاصطناعي أو التوسع في الضمان الاجتماعي، تحتاج معظم الحكومات إلى إقرار تشريعات وتوجيه كميات كافية من الأموال الحكومية في ذلك الاتجاه، وعلى العكس من ذلك لا يتطلب ترحيل المهاجرين فرض قوانين جديدة إلا فيما ندر، وبالتالي يمكن تنفيذ ذلك الخيار بسرعة نسبياً، وثمة عامل آخر يتمثل في أن قيود الهجرة والتعرفات الجمركية تعطي نتائج ملموسة وقابلة للقياس، بمعنى ذهاب آلاف الأجانب والحصول على مئات ملايين الدورلارات من العوائد، فيما تفتقد السياسات الأخرى إلى ذلك الملمح، وأخيراً تقدم نزعة الهوية الأصلية والحمائية شخصاً ما أو شيئاً ما يمكن إلقاء اللوم عليه، وفي المحصلة فمن الأسهل توجيه الغضب إلى العمال الأجانب أو المنتجات غير الوطنية بأكثر من صبه على التقدم التكنولوجي.
وإذا تبنى الناخبون سياسات شعبوية كرد فعل على الذكاء الاصطناعي فمن غير المرجح أن يعودوا للحلول الأكثر فعالية، فبحسب دراسة للباحثين آلان جاكوبس ومارك كايسر حول الديمقراطيات الأوروبية، فإن من يتجهون نحو الأحزاب اليمينية المتطرفة بسبب التغيرات الاقتصادية غالباً ما يظلون متمسكين بها، والسياسيون الذين يستفيدون من الخطاب المعادي للهجرة أو التجارة لا يملكون حوافز لإعادة الناخبين للوسط، بل إن بعض الدول والأحزاب التي كانت تقليدياً معادية للهجرة، مثل الحكومة اليابانية، بدأت تروّج علناً للذكاء الاصطناعي كبديل للعمالة الأجنبية.
استبق الأمور
تبدو كثير من هذه النتائج دليلاً سلبياً على مستقبل العمل والديمقراطية على حد سواء، لكن كما تظهر نتائج استطلاعنا فإن المسار الصحيح، إعادة التدريب والتنظيم والرعاية الاجتماعية، هو أيضاً الخيار الذي يفضله الناس أكثر من غيره، وإذا أراد صناع السياسات الاستجابة للمطالب الشعبية فيمكنهم سنّ قوانين لإنشاء وتمويل برامج تدريبية تعلم العمال كيفية العمل جنباً إلى جنب مع أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتطوير مهاراتهم في قطاعات أقل عرضة للأتمتة، أو مساعدتهم في الانتقال إلى وظائف جديدة يخلقها الذكاء الاصطناعي، كما يمكنهم إطلاق برامج دعم دخل جديدة لمن فقدوا وظائفهم، وأخيراً يمكنهم سنّ قوانين تنظم الذكاء الاصطناعي من خلال فرض الشفافية في القرارات الآلية وإلزام الرقابة البشرية في التطبيقات الحساسة، ووضع أطر قانونية للمساءلة عن الأضرار الناتجة من الذكاء الاصطناعي، مما يبطئ التطبيقات الأكثر اضطراباً ويضمن نشرها بصورة أكثر أماناً دون خنق الابتكار، ويمكن للحكومات تمويل هذه السياسات عبر فرض ضرائب على شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى لضمان أن الجهات المستفيدة من التحول تتحمل أيضاً تبعاته.
هذه السياسات لن تساعد ملايين العمال وحسب، بل قد تعيد الثقة في الحكومة، فعندما تعترف الدولة بمن فقدوا وظائفهم بسبب الذكاء الاصطناعي وتقدم لهم الدعم، فإنها تُظهر للناخبين أنها قادرة فعلاً على تلبية حاجاتهم، وبهذا يعزز السياسيون فرصهم السياسية، فبحسب دراسة للاقتصادي السياسي يوتام مارغاليت خلال إدارة جورج دبليو بوش، حققت الأحزاب الحاكمة نتائج أفضل في المناطق التي حصل فيها عدد أكبر من العمال المسرحين على فرص تدريب، وهو دليل على أن حصول الناخبين على دعم حكومي يخفف من ردود فعلهم السياسية تجاه فقدان الوظائف. (الولايات المتحدة مولت برامج تدريب لكنها لم تكن كافية).
لكن الوقت ينفد، فتبني الذكاء الاصطناعي يتسارع وآثاره السلبية على الوظائف لم تعد مجرد احتمال نظري، بل أصبحت واقعاً واسع الانتشار وستزداد خلال الأشهر المقبلة، أما السياسات التكيفية فستستغرق أعواماً حتى تؤتي ثمارها، وإذا أرادت الحكومات حماية اقتصاداتها ونفسها فعليها أن تتحرك الآن.
بياتريس ماجستيرو هي أستاذة مساعدة في حوكمة الذكاء الاصطناعي بجامعة نورث إيسترن.
صوفي بورواين هي أستاذة مساعدة في العلوم السياسية بجامعة كولومبيا البريطانية.
آر. مايكل ألفاريز هو أستاذ العلوم السياسية والاجتماعية الحاسوبية في مؤسسة فلينتريدج، وأحد المؤسسين المشاركين لمركز لينده للعلوم والمجتمع والسياسات في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.
بارت بونيكوفسكي هو أستاذ مشارك في علم الاجتماع والسياسة بجامعة نيويورك.
بيتر جون لويون هو عميد كلية الآداب والعلوم هارولد تانر وأستاذ في مجال الحكم والسياسات العامة بجامعة كورنيل.
مترجم عن “فورين أفيرز”، 13 أكتوبر 2025
Independent News
مجلة 24 ساعة