الرئيسية / صحافة ورأي / من المعجزة إلى المأزق الهيكلي.. لماذا تراجعت قاطرات اليابان وكوريا الجنوبية الآسيوية؟

من المعجزة إلى المأزق الهيكلي.. لماذا تراجعت قاطرات اليابان وكوريا الجنوبية الآسيوية؟

دكتور جلال قناص
دكتور جلال قناص
أستاذ مساعد في قسم المالية والاقتصاد في جامعة قطر
إن تدهور زخم النمو الاقتصادي في اليابان وكوريا الجنوبية يمثل تحولاً محورياً في المشهد الاقتصادي العالمي، إذ إن هاتين القوتين الآسيويتين، اللتين كانتا نموذجاً “للمعجزات الاقتصادية” بعد الحرب العالمية الثانية (“معجزة اليابان” و “معجزة نهر الهان” في كوريا)، تواجهان الآن تحديات هيكلية عميقة تُلقي بظلالها على آفاقهما المستقبلية، هذا التحليل النقدي يتناول الأسباب الهيكلية الرئيسية وراء هذا التراجع، معززاً بالبيانات المتاحة.
أولاً: القنبلة الديمغرافية.. العامل الأقوى
يُعد التحول الديمغرافي هو التحدي الهيكلي الأكثر إلحاحاً والأكثر تأثيراً في كلتا الدولتين، فاليابان وكوريا الجنوبية تتشاركان في أدنى معدلات الخصوبة في العالم، ما يؤدي إلى انكماش في قوة العمل وارتفاع في نسبة كبار السن.
* في اليابان؛ تُعاني البلاد من انخفاض في عدد السكان منذ سنوات، ما أدى إلى تقلص القوى العاملة وارتفاع نسب الإعالة، ولقد بلغت تكاليف الرعاية الصحية ضغطاً هائلاً، حيث ارتفعت من 5.7% إلى 8.24% من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2000 و2022، كما أن عدد المواليد في اليابان في عام 2022 بلغ 799,728 مولوداً فقط، وهو أدنى رقم مسجل منذ عام 1899. (العربي الجديد؛ Nippon.com).
* في كوريا الجنوبية الوضع أكثر خطورة، حيث تمتلك البلاد أدنى معدل خصوبة عالمياً، من المتوقع أن ينخفض عدد السكان في سن العمل بنسبة تصل إلى 35% بحلول عام 2050، وهو ما قد يؤدي إلى انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 28% مقارنة بمستويات 2022 (Al Arabiya)، هذا الانكماش يفرض تحدياً هائلاً على دعم النمو الاقتصادي وتمويل شبكات الأمان الاجتماعي.
ثانياً: ضعف الإنتاجية وتراجع الابتكار
تاريخياً اعتمد نمو “المعجزة” على قفزات في الإنتاجية والقدرة التنافسية، لكن هذا الزخم تراجع بشكل واضح.
* اليابان؛ بعد سنوات من الريادة تراجعت اليابان من المركز الرابع في تصنيف التنافسية الدولي (IMD) في عام 1995 إلى المركز الـ34 في عام 2020 (Almal News)، هناك تراجع واضح في الابتكار الياباني (الجزيرة نت)، وهو ما يُعزى جزئياً إلى التركيز على الادخار بدلاً من الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، ما يُعرف بـ”فخ السيولة”، حيث يمثل الإنفاق الخاص الاستهلاكي نحو 50% من النشاط الاقتصادي (Al Jazeera؛ YouTube).
* كوريا الجنوبية؛ على الرغم من تفوق سيول على طوكيو في بعض المؤشرات مثل التصنيف الائتماني والناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القدرة الشرائية (43,001 دولار لكوريا الجنوبية مقابل 42,725 دولاراً لليابان في عام 2018)، فإن إنتاجية العمالة في كوريا لا تزال تحتل مرتبة متدنية بين الدول المتقدمة (Al Arabiya)، وتواجه الشركات الصغيرة والمتوسطة صعوبة في النمو والابتكار بسبب سيطرة التكتلات الكبرى (Chaebols) مثل سامسونغ وهيونداي، ما يخلق اقتصاداً ثنائي المستوى ويعوق توزيع الموارد وتوليد الأفكار الجديدة (Al Arabiya).
ثالثاً: تحديات السياسة المالية و”البحث عن التوازن”
أسهمت الأطر السياسية في تفاقم المشاكل الهيكلية، خاصة في ما يتعلق بالإنفاق العام:
* تقشف الإنفاق الاستثماري (ياباني وكوري)؛ في سعيها لتحقيق توازن الميزانية ومواجهة عبء الدين العام (اليابان) أو الحذر المالي (كوريا)، أدى ضعف الاستثمار في البنية التحتية والتكنولوجيا والبحث والتطوير إلى إضعاف آفاق النمو المستقبلي، في كوريا الجنوبية توقع المعهد الكوري للتنمية انخفاضاً حاداً في الاستثمار في قطاع البناء بنسبة 8.1% على أساس سنوي في عام 2025 (Al Arabiya)، هناك حاجة ملحة لدعم حكومي أكبر في مجالات العلوم والتكنولوجيا الأساسية لتقليص الفجوة التكنولوجية مع المنافسين (Almal News).
* ركود الاستهلاك الياباني؛ يمثل الاستهلاك ما يقرب من 60% من الاقتصاد الياباني، وتباطؤه يشكل عائقاً كبيراً للنمو، إن أسعار الفائدة اليابانية “تقترب من الصفر أو أقل من صفر” (YouTube)، ومع ذلك لا ينفق المستهلكون بسبب “الخوف” وتفضيل توفير النقود، ما يغذي الانكماش (YouTube).
رابعاً: عدم المساواة والهياكل الاقتصادية الجامدة
تُشير المخاوف إلى أن ارتفاع عدم المساواة الاجتماعية والفوارق الإقليمية، بالإضافة إلى سيطرة التكتلات في كوريا، يخنق الإبداع ويمنع توزيع الفوائد الاقتصادية بشكل أوسع (الجزيرة نت).
* هيكلية الـ”Chaebol” الكوري؛ سيطرة التكتلات الكبرى (Chaebols) في كوريا على الاقتصاد، رغم فعاليتها في مرحلة النمو الأولي القائمة على التصدير، أصبحت الآن عبئاً هيكلياً، هذه السيطرة تخلق حواجز أمام دخول الشركات الصغيرة الجديدة وتؤدي إلى تشوهات في تخصيص الموارد وضعف الكفاءة الاقتصادية (ASJP).
خلاصة التحليل الهيكلي
إن أسباب تراجع “المعجزتين” الاقتصاديتين في اليابان وكوريا الجنوبية ليست عابرة، بل هي متجذرة بعمق في الهياكل الاقتصادية والديمغرافية والسياسية، ويُعد التدهور الديمغرافي بمثابة “الرياح المعاكسة” الأقوى لكلا البلدين، حيث يحد من قوة العمل ويزيد من الضغوط المالية، ويُفاقم هذا الوضع ضعف الإنتاجية وتراجع القدرة التنافسية في مواجهة المنافسين العالميين، إلى جانب الهياكل الاقتصادية الجامدة (فخ السيولة الياباني وسيطرة الـChaebols الكوري)، إن الحل لا يكمن فقط في التحفيز النقدي أو المالي التقليدي، بل يتطلب إصلاحات هيكلية جذرية لمواجهة الأزمة السكانية، وتحرير الإبداع من هيمنة التكتلات، وزيادة الإنفاق الحكومي النوعي على التكنولوجيا والبنية التحتية المستقبلية.

تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية

المراجع:
* Al Arabiya (كوريا تهتز؛ ضعف الاستثمار يخفض معدلات نمو اقتصاد كوريا الجنوبية).
* Al Jazeera (هل تنتهي معجزة كوريا الاقتصادية؟ ماذا حدث لـ”معجزة اليابان”؟).
* Almal News (تقرير: اليابان تتفوق على كوريا في التكنولوجيا).
* ASJP (اﻟﺘﻨﻤﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻓﻲ ﻛﻮرﻳﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ).
* العربي الجديد (الاقتصاد الياباني يفقد مكانته).
* Nippon.com (هل اقتربت نهاية معجزة شرق آسيا؟).
* QNB (أسباب تحوّل توقعات النمو الاقتصادي لليابان).
* YouTube (أسباب تراجع الاقتصاد الياباني في نهاية 2023
CNN Business News

شاهد أيضاً

في ذكرى ولادة الموسيقي الفرنسي رافيل: عودة إلى اهتمام مصري به

  هذا العام الموسيقي في فرنسا هو في جانب كبير منه عام المبدع موريس رافيل. فهو …