
باحث وكاتب
هذا العام الموسيقي في فرنسا هو في جانب كبير منه عام المبدع موريس رافيل. فهو العام الذي يحتفل به هذا البلد بالذكرى الـ150 لولادة هذا الفنان الذي لا يجهل هاو للموسيقى في العالم، في الأقل، واحداً من أجمل أعماله وأغربها على أية حال: “البوليرو” الذي لا يخلو من تنويعة عليه أي موسم موسيقي في مدن كثيرة من العالم، والذي تتفنن الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية في تقديمه والتنويع عليه.
ولعل موسم احتفالات الحياة الثقافية هذا يساهم، أخيراً، في التخلص من الفكرة المسبقة التي لشهرة البوليرو تجعله يبدو وكأنه العمل الوحيد الذي صنع مكانة موريس رافيل (1875 – 1937). بل ربما بالنسبة إلى مصر في الأقل، من بين البلدان العربية، نستعيد ذكرى ذلك الباليه الكبير المعروف بعنوانه الأسطوري “دافنيس وكلوي” والذي قدم في مصر خلال مرحلة العصر الذهبي للحياة الثقافية المصرية أواخر الستينيات بمبادرة من وزير الثقافة المثقف والكاتب الكبير ثروت عكاشة.
ويروي هذا الأخير بحنين دائم كيف أن الرسام الفرنسي/ الروسي الأصل الكبير مارك شاغال أهدى للمناسبة ديكورات وأصول ستائر ولوحات تمثل الأقسام المتعددة لذلك الباليه إلى الشعب المصري، مساهمة منه في دعم ذلك التقديم دون مقابل. وهو كان على أية حال من أبدع الذين حققوا ديكورات وأزياء ذلك الباليه على مر تاريخ الموسيقى، ولكن على خطى الفنان باكست الذي عند بداية القرن الـ20 حقق الأعمال الفنية للعرض الأول للباليه تحت إشراف رافيل نفسه ومخرج الباليه الروسي الكبير ميشال فوكين، ولا سيما ضمن العروض الأولى عام 1912.
باليه على الطريقة السيمفونية
من الناحية التقنية يمكن توصيف “دافنيس وكلوي” بأنه عمل موسيقي للباليه وكذلك عمل سيمفوني أوركسترالي ظهر عام 1912، بعنوان “سيمفونية راقصة” مكتوب تحديداً للأوركسترا والكورال الصامت.
وهو في الأصل يتألف من ثلاثة أقسام رئيسة للوحات، تتوزع على 12 مشهداً معظمها رقصات، ويستغرق أداؤه المسرحي نحو ساعة، مما يجعله أطول عمل للملحن.
صحيح أن “دافنيس وكلوي” عُرض للمرة الأولى كباليه، ولكنه يقدم غالباً كعمل موسيقي، إما كاملاً أو على صورة مقتطفات مستقلة.
ومن ناحية كونه باليه يمكن الحديث هنا عن تقديمه الأول، إذ اقتبس مصمم الرقصات ميشال فوكين سيناريو الرقص من رواية رومانسية رعوية للكاتب اليوناني القديم لونغوس، يعتقد أنها تعود إلى القرن الثاني الميلادي، وهي تروي قصة حب بين راعي ماعز يدعى دافنيس وراعية تدعى كلوي. وهي قصة تمر بعدد من العقبات المعتادة والتنافس على قلب الصبية واختطافها، وسعي العاشق للوصول إليها وما شابه ذلك كما في القصة الأصلية التي، كما حال هذا النوع من القصص، ستنتهي على خير وسعادة.
الموسيقي في فرقة الباليه الروسية سيرغاي دياغيليف صاحب مشروع البليهات الروسية الذي شغل الأوساط الاستعراضية الأوروبية عموماً والفرنسية خصوصاً طوال الربع الأول من القرن الـ20، وأحدث من التجديد في فن الباليه وموسيقاه، مما انعكس بالضرورة على أداء بوريس رافيل في هذا العمل، وهو من أكمل ألحان الباليه قبل أشهر قليلة من العرض الأول له كعمل مسرحي.
وأقيم هذا العرض على مسرح شاتليه داخل باريس خلال الثامن من يونيو (حزيران) 1912، بتصميم ديكورات من ليون باكست، وتصميم رقصات من فوكين، وقيادة أوركسترا كولون بيير مونتيكس. وقدمت تامارا كارسافينا وفاسلاف نيجينسكي رقصتي الراعية والماعز.
حريق في القاهرة
ومهما يكن من أمر تعد موسيقى “دافنيس وكلوي”، أطول أعمال رافيل. بل تعد من أكثر أعمال الملحن تعبيراً عن شغفه الموسيقي الخالص، ومن أفضل أعماله على نطاق واسع بتناغماتها الغنية الاستثنائية التي تميز الحركة الانطباعية، مما جعله يعد هو نفسه من أبرز وجوه النزعة الانطباعية في الموسيقى الفرنسية. حتى خلال حياة الملحن، وصفها المعلقون بأنها تحفته الموسيقية للأوركسترا.
والحقيقة أن كل ذلك النجاح والإعجاب النقدي الذي عايش “دافنيس وكلوي” وصولاً حتى إلى تقديمها داخل دار الأوبرا القديمة في القاهرة، بمبادرة من ثروت عكاشة الذي كتب عن العمل مطولات بديعة، وبخاصة عن مساهمة مارك شاغال التي، كما ذكرنا، قدمها هدية للشعب المصري – لكنها، أي رسوم شاغال وتخطيطاته والستائر التي بعث بها من باريس، لن تعيش طويلاً، إذ كانت من أثمن الضحايا التي نتجت يومها داخ العاصمة المصرية عن حريق تأكد لاحقاً أنه متعمد، أتى على دار الأوبرا ومحتوياتها، ممهداً الطريق لإزالة تلك التحفة المعمارية من وسط القاهرة لتحويل المبنى إلى مرآب للسيارات!
كل ذلك يذكرنا بكيف أن رافيل استخرج من السيمفونية بين أعمال وفقرات موسيقية أخرى، متتاليتين أوركستراليتين، يمكن عزفهما مع الجوقة أو من دونها.
أعدت الأولى عام 1911، أي قبل العرض لتعزف على خشبة المسرح. أما الثانية، وهي الجزء الثالث من العمل بأكمله، فقد صدرت عام 1913، وتحظى بشعبية كبيرة. مع الإشارة إلى أنه عندما يعزف العمل كاملاً، غالباً ما يكون ذلك في حفل موسيقي وليس على خشبة المسرح.
غياب التوازن المعماري
يبقى أخيراً أن نلقي على هذا العمل ككل، ولكونه العمل الذي يؤتى على ذكره أكثر ما يؤتى، بعد “البوليرو”، من بين أعمال رافيل هذه الأيام لمناسبة الاحتفال الفرنسي بذكرى ولادة صاحبه، أن نلقي نظرة تلخص موقف النقد الفرنسي منه حيث لا بد من الإشارة من جديد إلى كونه يعد من أكثر أعمال رافيل نضجاً وتكاملاً حتى وإن كان بعض على رغم إعجابهم به، يرون أنه يفتقر إلى ذلك التوازن المعماري الذي اعتاد رافيل التمسك به في أعماله الكبيرة. ففي “دافنيس وكلوي” يبدو رافيل وكأنه حرر نفسه من حتمية اللجوء إلى ذلك النمط من المعمار – الذي يهيمن بصورة عبقرية على “البوليرو” كما نعرف.
المهم أن الحرية التي أسبغها رافيل على هذا العمل بدت محيرة لكنها لم تقلل من التعبير العام عن الإعجاب بالعمل. ولقد لفت الأنظار هنا خاصة، ومنذ تقديم الباليه ثم عبر تقديم القطع الأوركسترالية بل “السيمفونية” المستقاة منه، كيف أن انعتاق رافيل من القواعد مكنه من أن يستخدم في التوزيع آلات نادرة في هذا السياق مثل الناي في عزف منفرد والكلارينيت – وبخاصة في مقام بي بيمول – وأنواع متعددة من آلات النفخ وما شابه ذلك.
وهو في خضم ذلك تعمد كما يبدو أن يلجأ إلى الدقة والمهارة الهندسية المعتادة لمجرد أن يخلق، كما قال هو نفسه لاحقاً، نوعاً من “جدارية” موسيقية تصور العالم اليوناني القديم الملتحم غالباً بالطبيعة وروعتها وتحررها من قيود الاضافات البشرية، وهو ما اعتبر أداة أخرى من أدوات تقربه من أساليب الرسم التي فضلها مواطنوه من الفنانين التشكيليين خلال القرن الـ18 على وجه الخصوص.
من الانطباعية إلى الرومانطيقية
والحال أن هذه الجدارية التي وجدت نفسها أكثر وأكثر تقدم خارج إطار الباليه، اتخذت تدريجاً أيضاً عنواناً مختلفاً تماماً وأكثر تقنية مما كان في مقدورنا أن نعتقد أو يعتقد المؤلف صاحب العلاقة نفسه. فهي، وبالأقسام الرئيسة الثلاثة التي راحت تشكلها باتت تعرف بـ”المتتابعة السيمفونية” علماً أن تلك الأقسام هي نفسها التي أغرم بها الجمهور الذي حضر العروض الأولى للباليه في تلك الليلة الباريسية التأسيسية، وسيستعيدها لاحقاً في آخر سنوات رافيل، تحديداً على ضوء المكانة التي احتلها “البوليرو” (1928)، الذي أضحى أشهر أعماله على الإطلاق.
والمتتابعة تحمل بالطبع العناوين التالية تباعاً: “الليلية” و”الفجر” و”الباكانل” وهي عناوين من الواضح أنها تكاد تقول جوهر العمل لكنها خلال الوقت نفسه تبرر ما ذهب إليه عدد لا بأس به من النقاد والمؤرخين، من الذين وجدوا أن بوريس رافيل تعمد هنا أن يقيم نوعاً من المزج بين انطباعية يفرضها عليه المناخ الرعوي، ورومانطيقية مستقاة بصورة مباشرة من الحكاية الغرامية والأجواء الليلية التي تلوح في عناوين المقاطع، التي لم تلبث أن استقلت لتطبع موسيقى رافيل بتلك الرومانطيقية التي سيتحدث عنها الجمهور النخبوي المصري بوفرة، حين سيتدافع في العرض المصري لـ”دافنيس وكلوي” تدافعاً جعل من د. ثروت عكاشة، صاحب المشروع، شراكة مع الكاتب الوزير الفرنسي أندريه مالرو يتحدث عن “رومانطيقية لا تنسى طبعت تلك الأمسية القاهرية الرائعة”.