الرئيسية / صحافة ورأي / تلك الحكاية مع أول كتاب قرأناه في حياتنا!

تلك الحكاية مع أول كتاب قرأناه في حياتنا!

الكاتب أمين الزاوي
أمين الزاوي – كاتب ومفكر @aminzaoui1

من منا لا يتذكر أول كتاب قرأه؟

أول كتاب قرأناه في حياتنا لا يمكننا أن ننساه، يظل لاصقاً في الروح، وعلاقتنا بهذا الكتاب الأول كعلاقتنا بأول سفر، بأول مرة نركب فيها القطار أو الطائرة، بأول مرة نقضي فيها أول ليلة خارج بيت العائلة، بأول مرة نرى فيها جثمان ميت عزيز، فالمرات الأولى في الحياة لا تنسى أبداً، لكن المرة الأولى مع الكتاب لها وقع وإيقاع خاصان جداً.

لكل كتاب حكاية مع قارئه، لكن حكاية الكتاب الأول لا تنسى أبداً، وتختلف عن كل الحكايات اللاحقة في تاريخ علاقة القارئ بالكتب.

قد يكون الكتاب الأول الذي قرأناه كتاباً بسيطاً، كتاباً هامشياً، كتاباً ربما تكون انتهت صلاحيته المعرفية والثقافية أصلاً، قد يكون أضحى في خبر كان، يحدث أن يكون مؤلفه مجهولاً، لا هو جاك دريدا، ولا هو سبينوزا، ولا هو نجيب محفوظ، ولا هو محمد ديب، ولا هو غادة السمان، ولا هو فرويد، وربما يكون موضوعه تافهاً أو عادياً لا هو في فلسفة الوجود ولا في الاقتصاد السياسي ولا في السيمائيات ولا في التاريخ ولا في الأنثروبولوجيا، ولا رواية من روايات الـ “بيست سيلر” best seller… قد يكون القارئ لهذا الكتاب الأول أصبح كاتباً أو جامعياً أو إعلامياً والتهم مئات الكتب لاحقاً إلا أنه يتذكر كل شيء وبالتفاصيل عن هذا الكتاب الأول.

على رغم كل هذه البساطة، يتذكر القارئ، وبدقة، المكان الذي قرأ فيه كتابه الأول، بتذكر رائحة ورقه التي تلاحقه باستمرار، ويتذكر من أين حصل على هذا الكتاب، هل اشتراه؟ أم سرقه من مكتبة خاصة أو عامة؟ ومن منحه القطعة النقدية التي اقتنى بها هذا الكتاب الأول للقراءة الأولى؟

ويتذكر القارئ سعر هذا الكتاب وكيف أنه فضّل صرف هذه القطعة النقدية العزيزة عليه في شرائه، بدلاً من صرفها في اقتناء قطعة حلوى أو كراء دراجة ليركبها ربع ساعة ويمر أمام بنت الجيران بزهو!

ولأنه لم يعبر أمام بيت بنت الجيران ذلك اليوم راكباً الدراجة الهوائية، فإن ذلك الغياب سيتذكره أكثر بهذا الكتاب وبالقراءة الأولى!

بنت الجيران أم كراء الدراجة الهوائية أم قطعة الحلوى أم الكتاب الأول؟

وحين ينتصر الكتاب الأول على بنت الجيران الجميلة، يتذكر القارئ المكان الذي اشترى منه هذا الكتاب، من مكتبة أو من بسطة على الرصيف، ويتذكر سعره ويتذكر ربما وجه البائع وهو يدخل القطعة النقدية الصفراء في جيبه الأيمن، ويتذكر رائحة الوقت أكان صيفاً أو شتاء، ربيعاً أو خريفاً… فلوقت شراء الكتاب الأول رائحة خاصة !!

ويتذكر القارئ غلاف الكتاب الأول، صورة لامرأة جميلة أو لرجل محارب أو لقطار على سكة أو لبحر بأمواج عالية أو لمطر غزير يهطل فوق مظلة تقي رأس فتاة أنيقة بفستان أحمر قصير وشعر مقصوص ومسرح بطريقة مثيرة أو صورة لبائع الفواكه أو الزهور… فصورة غلاف الكتاب الأول لا تنسى أبداً، أكبر من لوحة “الموناليزا” لليوناردو دافنشي ومن “غرنيكا” لبيكاسو، أو “الليلة المقمرة” لفان غوخ…

نتذكر لحظات القراءة الأولى للكتاب الأول بكل تفاصيلها، نتذكر كيف كنا نفصل الأوراق عن بعضها بعضاً، إذ كانت الكتب تطبع وتباع بأوراق ملتصقة من الجانب الأعلى، بكثير من الحرص والخوف من ضياع كلمة، وكنا نفصلها عن بعضها بعضاً بسكين أو بمشط أو بإدخال الكف ما بين الأوراق ثم الدفع بقوة، ونسمع موسيقى التقطيع، فيرتجف القلب ألم نسقط كلمة كانت جالسة على أطراف السطر؟

أين كنا جالسين، يا ترى، بصحبة أول كتاب قرأناه؟ في خلوة، في غرفة بلا نافذة، على مقعد في وسيلة نقل عمومية مهترئة، في ركن بمقهى شعبي يطن في سمائه الذباب، إلى ظل شجرة تين يتسلق جذعها النمل في سطور منظمة ومن دون توقف، أكان الوقت ظهيرة أم ليلاً أم قبل الغروب؟

هي طقوس القراءة الأولى لا تنسى أبداً!

ونتذكر اسم كاتب أول كتاب قرأناه، كنا نعتقد بأن هذا الكاتب ليس من بني البشر، فأسماء الكتاب الذي يكتبون الكتب التي نقرأها في المرة الأولى لا تشبه الأسماء الأخرى، والذي كتب كتابنا الأول هو من سلالة أخرى، نادرة، لا هو من الآلهة ولا هو من الأنبياء، إنه من طينة أخرى، طينة الكتاب! الذين لون دمهم من لون المداد!

حين تكون قراءة الكتاب الأول ذكرى لا تنسى، فتلك طريقنا إلى الغرق المؤكد، الغرق في قراءة كتب أخرى، إنها لحظة السقوط في شرك القراءة، فعلاقتنا بالكتاب الأول حاسمة في حياتنا الثقافية اللاحقة.

وقد تكون القراءة الأولى للكتاب الأول خلال مرحلة الطفولة أو المراهقة وقد تكون في مرحلة متأخرة قليلاً، في الشباب، لكن الدهشة هي نفسها.

هذا الصباح، جاءتني ابنتي لينا، طالبة في قسم اللغات، سائلة بنوع من الاستغراب وهي تراني يومياً ملتصقاً ساعات طويلة بالكرسي في مكتبي، نظري مغروس في صفحات كتاب، قائلة “أفي هذا الذي تقرأه ما يشد إلى هذا الحد؟”، قلت لها هو فيروس سكنني منذ الطفولة! فقالت “هل القراءة فيروس معدٍ؟”، قلت لها نعم، وحكيت لها الحكاية التالية “لقد أصبت بعدوى القراءة منذ قراءتي الأولى لأول كتاب في حياتي، لقد حصلت عليه كجائزة منحت لي في السنة الخامسة ابتدائي، كنت تلميذاً نجيباً في كل المواد وبصورة خاصة اللغة العربية والفرنسية، وكنت أحرر إنشاءات جميلة، أما عنوان الكتاب فهو ’عنزة السيد سوغان‘، هي قصة بسيطة تتقاطع مع قصص وحكايات جدتك لالة رابحة، أي أمي، وحين مسكت هذا الكتاب الأول وقرأته للمرة الأولى شعرت بالعالم قد بدأ يتغيّر فوراً، فيّ ومن حولي، لقد منحني متعة ومنحني شيئاً آخر غريباً، الرغبة في أن أكون أنا الآخر كاتباً!! وحدث هذا حين أخبرني المعلم الذي سلمني الجائزة بأن هذا الكتاب كتبه ألفونس دوديه وهو أحد كبار الأدب الفرنسي الكلاسيكي، ولم أكن أفهم ما معنى هذه الكلمة الكبيرة ’كلاسيكي‘ التي يصعب عليّ حتى نطقها، لم أكن أعرف شيئاً لا عن دوديه ولا عن الكلاسيكيات العظمى في الأدب الفرنسي! ولكن ما حركته في هذه القراءة الأولى لأول كتاب في حياتي هو التالي إذا ما كان هذا الألفونس دوديه كاتباً كبيراً وواحداً من كلاسيك الأدب الفرنسي! كما يقول معلمي، ومعلمي لا ينطق عن الهوى، ومع ذلك لم يروِ  في هذا الكتاب سوى قصة حياة الرجل الريفي السيد سوغان مع عنزاته التي أكلها الذئب في الغابة واحدة بعد الأخرى، أليس بإمكاني أنا الذي استمعت إلى مئات الحكايات الشعبية المدهشة من أمي لالة رابحة والتي تفوق في سحرها وقوتها وحوادثها ما جاء في حكاية ’عنزة السيد سوغان‘ لألفونس دوديه الذي هو من أكبر كلاسيكيي الأدب الفرنسي! أليس بإمكاني أن أكون أنا الآخر كاتباً مثل دوديه، بل أكبر منه إذا ما كتبت ما ترويه لي أمي؟”.

هكذا ظل هذا الكتاب الأول “عنزة السيد سوغان” في ذهني، وظلت هذه القراءة الأولى موشومة في ذاكرتي ومنها نبتت رغبة الكتابة ومنها انطلقت مغامرة القراءة الكبرى.

نظرت إلي ابنتي لينا وهي تتابع حكايتي مع كتابي الأول “عنزة السيد سوغان” متسائلة “هل يمكنك أن تقترح عليّ كتاباً قادراً أن ينسج لي علاقة متينة مع القراءة؟ أن تقترح لي ’عنزة السيد سوغان‘ أخرى جديدة، مناسبة لزمننا هذا؟”.

نظرت إلى رفوف المكتبة التي أمامي والمليئة بالكتب، بعضها مرتب وبعضها في جماليات الفوضى، قمت وتناولت رواية “الخيميائي” لباولو كويلو وسلمتها إياها، انسحبت لينا إلى غرفتها، واختفت طول النهار.

في اليوم التالي عادت لينا، دخلت عليّ في مكتبي، شعرت وكأن شيئاً ما قد تغير في ملامحها، وقالت “هل جميع الكتب مثل هذا وأشارت إلى ’الخيميائي‘ في يدها؟”، قلت لها هناك ما هو أفضل وأجمل وأعمق بكثير، فقالت “هل يمكنك أن تقترح عليّ كتاباً آخر؟”، فقلت لها نعم، وقمت إلى رفوف المكتبة واخترت لها منها رواية “ليون الأفريقي” لأمين معلوف، فاختفت لينا ثانية لتغرق في كتابها الجديد.

بعد أيام تغيرت لينا كلية، لقد غيرت القراءة حياتها ويومياتها وعاداتها، وأصبحت تختار كتبها وحدها، فالتهمت كتب غي دو موباسان كلها، لست أدري لماذا غي دو موباسان، والأجمل من كل ذلك أنها أصبحت، وبعد فترة، هي من تختار لي الكتب مع كل دخول أدبي.

اليوم تعددت الكتب في مكتبتي وتراكمت في كل مكان حتى غزت البيت كله، كتب في الأدب والفلسفة والتاريخ والفنون ودوريات عامة وأكاديمية كثيرة وأطروحات جامعية، وكلما وقفت للبحث عن كتاب في هذه الفوضى المدهشة، أضيع، ولكنني حين أضيع أتذكر الكتاب الأول، قراءتي الأولى “عنزة السيد سوغان” لألفونس دوديه، فأبتسم، وبسرعة أعثر على الكتاب ضالتي.

هل تتذكرون أول كتاب قرأتموه؟ هل تتذكرون حكايتكم معه؟ وحكايتكم مع القراءة لاحقاً؟

Independent News

شاهد أيضاً

في ذكرى ولادة الموسيقي الفرنسي رافيل: عودة إلى اهتمام مصري به

  هذا العام الموسيقي في فرنسا هو في جانب كبير منه عام المبدع موريس رافيل. فهو …