الرئيسية / صحافة ورأي / تحلية المياه المستدامة ودورها في رسم ملامح مستقبل المياه في الشرق الأوسط

تحلية المياه المستدامة ودورها في رسم ملامح مستقبل المياه في الشرق الأوسط

أدريان دو سان جيرمان
أدريان دو سان جيرمان
الرئيس التنفيذي لأنشطة تحلية المياه في شركة ڤيوليا
 
 
عندما نتحدّث عن دور الإدارة المبتكرة للمياه في تحويل الصحاري القاحلة إلى مراكز نابضة بالحياة الاقتصادية والعمرانية، نستشهد حتماً بمنطقة الشرق الأوسط التي تحوّلت إلى نموذج عالمي أعاد رسم معالم بيئته الطبيعية، وتَكمُن تحلية المياه في صميم هذا التحوّل، بوصفها استجابةً جوهريةً لندرة المياه المُزمنة التي لطالما شكّلت تحدّياً وجودياً للمنطقة، فمن خلالها ازدهرت المدن ونمت الصناعات، لتغدو التحلية اليوم أحد أعمدة التنمية والاستدامة في الشرق الأوسط، ومع تزايد الطلب على المياه بالتوازي مع النمو السكاني والتطوّر الصناعي، تبرز الحاجة الملحّة إلى تطوير تحلية المياه بطريقةٍ مستدامة تُحقّق التوازن بين احتياجات الإنسان ومتطلّبات الاقتصاد وسلامة البيئة.
تؤدّي شركة ڤيوليا، الرائدة عالمياً في مجال تقنيات وخدمات المياه، دوراً محورياً في مسيرة التطوّر هذه، فاليوم تعتمد نحو 18% من السعة التشغيلية العالمية لمحطّات تحلية المياه على تقنيّات ڤيوليا، ويقع جزءٌ كبير منها في منطقة الشرق الأوسط، في دلالةٍ واضحة على حجم التحدّيات المائية التي تواجهها المنطقة من جهة، وعلى التزام الشركة بتحقيق الكفاءة والمرونة والاستدامة من جهةٍ أخرى.

من ضرورة باهظة الثمن إلى حلٍّ مُستدام

كانت تحلية المياه، قبل خمسين عاماً، خياراً باهظ التكلفة، يستهلك كميّات كبيرة من الطاقة، فلم يتمّ اللجوء إليها إلّا عند نفاذ جميع الحلول الأخرى، غير أنّ التطوّر التكنولوجي المتسارع خلال العقود الماضية أعاد رسم ملامح هذا القطاع، وحوّله من حلٍّ اضطراري إلى ركيزة أساسية في منظومة الأمن المائي، فاليوم تستهلك محطّات التحلية الحديثة بتقنية التناضح العكسي طاقةً أقل بنحو سبع مرّات مقارنةً بالمحطّات التي أُنشئت في سبعينيات القرن الماضي، ما أسهم في خفض التكاليف التشغيلية وتقليل الأثر البيئي الناجم عن عمليّات التحلية بصورة غير مسبوقة، وباتت أنظمة المراقبة والتحليل البياني المدعومة بالذكاء الاصطناعي تُسهم في تحسين أداء محطّات التحلية بشكلٍ لحظي، من خلال رفع مستوى الدقّة والموثوقية والحدّ من الحاجة إلى أعمال الصيانة الدورية إلى أدنى حدٍّ ممكن.
لم يقتصر تَغيُّر المشهد على هذه الابتكارات، بل شهدت تقنيّات التحلية في السنوات الأخيرة تطوّراً ملحوظاً جعلها أكثر مرونةً وقابليةً للتوسّع، فبينما لا تزال محطّات التحلية الضخمة تُشكّل العمود الفقري لإمدادات المياه في الشرق الأوسط، تُتيح التصاميم المعيارية الجديدة تنفيذ المشاريع بدرجة أعلى من السرعة والأمان، مع قدرةٍ أكبر على التكيّف مع الاحتياجات المحليّة لكلّ منطقة، ومن شأن هذا التكامل بين النماذج المختلفة تحقيق تغطية واسعة من جهة، وحلول دقيقة ومفصّلة حسب احتياجات محدّدة من جهةٍ أخرى، الأمر الذي يدعم مسار النموّ المستدام في بيئات مُختلقة.
وبفضل هذه الابتكارات، تحوّلت تقنيات التحلية إلى مصدر مياه قابلٍ للتوسّع ومجدٍ اقتصادياً، لا يلبّي احتياجات الاستخدام السكني فحسب، بل يدعم أيضاً القطاعات الحيوية على غرار البتروكيماويات، والزراعة، والمأكولات والمشروبات، بالإضافة إلى قطاع السياحة.
 
لا مُساومة على حماية البيئة
تتجاوز الاستدامة حدود الكفاءة في استهلاك الطاقة، لتشمل أيضاً حماية النُظُم البيئية البحرية الحسّاسة من آثار تصريف المحلول الملحي، وهو جانبٌ يتصدّر قائمة أولويّات عمليات التحلية الحديثة، وتعتمد المحطّات الرائدة اليوم تقنياتٍ متقدّمة لتوزيع المحلول الملحي إلى جانب أنظمة مراقبة بيئية مُتواصلة، بهدف الحدّ من التأثيرات السلبية.
تُعدّ محطّة حصيان لتحلية المياه في دبي، التي ستدخل حيّز التشغيل قريباً، نموذجًا يُحتذى عالمياً، إذ تُصنَّف كثاني أكبر منشأة لتحلية المياه بتقنية التناضح العكسي في العالم، وأكبر محطة لتحلية المياه عالية الكفاءة في استهلاك الطاقة على مستوى العالم، وستُشغَّل المحطة بالاعتماد الكامل على الطاقة الشمسية، لتوفّر مياه الشرب لنحو مليونَي نسمة، ويأتي انخفاض استهلاك الطاقة في هذه المحطة واعتمادها على مصادر الطاقة المتجدّدة ليؤكّدا أنّ نموّ المنطقة يمكن أن يتحقّق بطريقةٍ تجمع بين الجدوى الاقتصادية والاستدامة البيئية، بما يُثبت أنّ الابتكار لا يتعارض مع حماية الموارد.
 
مقاربة شمولية تعتمد على تكامل تحلية المياه مع إعادة استخدامها
لا يخفى على أحد أنّ تحلية المياه ليست حلاً قائماً بذاته، حيث إنّ إعادة استخدام المياه، أي معالجة مياه الصرف وإعادة تدويرها للاستخدامات البلدية والصناعية، تُعدّ عنصراً محورياً في تعزيز إمدادات المياه العذبة وضمان استدامتها على المدى الطويل، يُسهم الدمج بين تحلية المياه وإعادة استخدامها في رفع كفاءة إدارة الموارد المائية الشاملة، وتخفيف الضغط على مصادر المياه العذبة المحدودة، فضلاً عن تعزيز نهج الإدارة المستدامة للمياه في ظلّ تزايد الطلب.
على صعيد منطقة الشرق الأوسط، يشهد الطلب على المياه ارتفاعاً متسارعاً تحت وطأة النمو السكاني في المدن ونمو القطاعات الصناعية، ومن هنا يبرز النهج المتكامل لإدارة الموارد المائي، الذي يجمع بين الحفاظ على الموارد الطبيعية وإعادة استخدام المياه وتحليتها، كخيارٍ استراتيجي يوفّر مساراً مستداماً يتكيّف مع تغيّرات المستقبل، بما يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية لضمان الأمن المائي للمنطقة على الأمد الطويل.
 
الابتكار على أرض الواقع
تُشكّل ريادة الشرق الأوسط في مجال تحلية المياه المستدامة نموذجاً عالمياً يُحتذى في كيفية توظيف البُنى التحتية لدفع عجلة النمو الاقتصادي دون المساومة على المسؤوليات البيئية والاجتماعية، وتتجلّى خبرة شركة ڤيوليا في هذا المجال من خلال محفظة مشاريعها الواسعة التي تشمل أكثر من 2,300 منشأة موزّعة على 108 دول، وبقدرة معالجةٍ إجمالية تبلغ نحو 13 مليون متر مكعّب من المياه يومياً، هذا الحجم الاستثنائي من الإنتاج يكفي لملء 5,200 مسبح أولمبي يومياً، في إنجازٍ يُجسّد بوضوح دور الخبرة والابتكار في مواجهة التحدّيات المائية المعقّدة على مستوى العالم.
تُعدّ محطة التحلية في ولاية صور في سلطنة عُمان مثالاً بارزاً على الابتكار والاستدامة، إذ تعتمد على مزرعة شمسية مخصّصة لتوليد الطاقة اللازمة لتشغيلها، وتُوفّر مياه شرب عالية الجودة لأكثر من 500 ألف نسمة، مع خفضٍ كبير في انبعاثات الكربون.

وعلى مر السنوات، تحوّلت المحطة في صور إلى مركزٍ رائدٍ للابتكار في مجال التحلية، إذ كانت من أوائل المنشآت التي اعتمدت حلول الأغشية الذكية، وفي طليعة المواقع التي طبّقت تقنية Barrel من ڤيوليا، وهي وحدة ضغط معيارية متعدّدة العناصر لتحلية المياه بتقنية التناضح العكسي، صُمّمت بنظام “التوصيل والتشغيل” (Plug-and-Play)، وباتت مُعتمدة اليوم في محطّاتٍ عديدة حول العالم.

وتشهد هذه المنشأة على دور الابتكار في خفض البصمة الكربونية وتعزيز الكفاءة الإنتاجية، مع الاستمرار في تلبية احتياجات المجتمعات المتنامية بدرجة عالية من الكفاءة والموثوقيّة.
رسم معالم مُستقبل مائي يصمد بوجه التحديات
وبالنظر إلى المستقبل، ستُشكّل التقنيات الرقمية المتقدّمة وتكامل مصادر الطاقة المتجدّدة عاملَين أساسيَّين في دفع الجيل القادم من مشاريع تحلية المياه، وفي حين لا يزال سوق تحلية المياه في المنطقة يعتمد إلى حدٍّ كبير على المحطّات الضخمة واسعة النطاق، فإنّ التصاميم المعيارية والقابلة للتوسّع ستؤدّي دوراً محورياً في تسريع تنفيذ المشاريع وتعزيز مرونتها وضمان أعلى معايير السلامة والكفاءة التشغيلية.
لقد أسهمت تحلية المياه بالفعل في تحقيق نهضة تنموية لافتة في منطقة الشرق الأوسط، من خلال توفير ركيزة موثوقة لأمن المياه، وللحفاظ على هذا الزخم لا بدّ من الاعتماد على الطاقة النظيفة، وتسخير الابتكار الرقمي في سبيل تحقيق التميّز التشغيلي، إلى جانب ترسيخ مبادئ المسؤولية البيئية في مختلف مراحل العمل، والتمسّك بهذه المبادئ سيضمن قدرة تحلية المياه على تلبية احتياجات اليوم المُلحّة، ويُحافظ على دورها كركيزة أساسية لازدهار المجتمعات وضمان أمنها المائي لعقود من الزمن.
CNN Business News

شاهد أيضاً

في ذكرى ولادة الموسيقي الفرنسي رافيل: عودة إلى اهتمام مصري به

  هذا العام الموسيقي في فرنسا هو في جانب كبير منه عام المبدع موريس رافيل. فهو …