تعرّف الفتى على زميلته سوزان التي كانت تساعده بأن تقرأ له. كتب يصف صوتها ” كأنه تلك الشمس التي أقبلت في ذلك اليوم من أيام الربيع، فجلت عن المدينة ما كان قد أطبق عليها من السحاب الذي كان بعضه يركب بعضًا، والذي كان يقصف ويعصف حتى ملأ المدينة أو كاد يملؤها أشفاقًا وروعًا. وإذا المدينة كلها تصبح إشراقًا ونورًا ” ، سمع الفتى ذلك الصوت يقرأ عليه شيئًا من شعر راسين ذات يوم، فأحس كأنه خلق خلقًا جديدًا، ومنذ تلك الساعة التي سمع فيها ذلك الصوت لم يعرف اليأس إلى نفسه سبيلًا. ولم يعرف الفتى أنه أحب الحياة قط كما أحبها في الثامن عشر من شهر مايو من ذلك العام .
وللحب فى حياة طه حسين دوراً فى دعمه والدور الإرشادي الكبير لمساعدته فى التعليم ، و تحّطيم جدران عزلته ومزّقت، الواحد تلو الآخر، برقة شديدة وحماسة موازية، الأغشية السميكة التي كانت تفصله عن الحياة والأحياء والأشياء. قصة حب بينهما امتدت لما يزيد عن 60 سنة. وطيلة حياتهما، شكلت سوزان الداعم الأول للأديب العالمي طه حسين، أحبته من قلبها، وكرست حياتها من أجل خدمته، ورافقته في كل سفرياته، وساندته في الكثير من المحن والصعوبات التي واجهها خصوصا في فترة الثلاثينيات ، كانت سوزان العين التي يرى بها طيلة حياته . لذلك قال عنها طه حسين: «ما بيننا يفوق الحب، وبدونك أشعر أنني أعمى حقاً».ووصف في كتابه « الأيام» ، فضل المرأة التي التقى بها فى مونبيلية بفرنسا عندما كان ضمن البعثة المصرية التي تتابع دراساتها العليا بفرنسا، سوزان بريسو التى قبلت العمل كمساعدة له على المذاكرة ومطالعة الكتب لأنه كفيف، قبل أن تتطور علاقتهما ويعترف لها طه حسين بحبه ورغبته بالزواج منها.ورغم رفض أسرة سوزان ارتباط ابنتهم بطه حسين بحكم اختلاف الديانة واختلاف البلد الذي ينتميان اليه بجانب أنه كفيف، إلا أنها أصرت على الزواج به، وهو ما تحقق بعد عامين من لقائهم الاول .. و يقول عنها طه حسين: «أنا مدين لها أن تعلمت الفرنسية، وأن عمقت معرفتي بالأدب الفرنسي، وأنا مدين لها أن تعلمت اللاتينية ونجحت في نيل إجازة الآداب، وأنا مدين لها أخيراً أن تعلمت اليونانية واستطعت أن أقرأ أفلاطون في نصوصه الأصلية». فكان الفضل الأكبر في اهتمام طه حسين بالادب الفرنسي وفي امتلاكه ناصية اللغات الأجنبية وكذا حصوله على الدكتوراه يعود بالدرجة الأولى لزوجته سوزان أو أستاذته وأقامته في فرنسا هي التي جعلته يعي وضع وطنه الاجتماعي والسياسي والثقافي البائس ويحاول مصالحة الحداثة الأوروبية مع الماضي العربي الإسلامي والإرث الفني لمصر القديمة. بالإضافة للأسفار الغزيرة التي قامت بها سوزان مع زوجها وحبهما الكبير للموسيقى الكلاسيكية وطبيعة علاقاتهما بشخصيات مهمة كثيرة، كأبرز أدباء وفناني ومفكري عصرهما في مصر والعالم العربي، وعمالقة بحجم لوي ماسينيون وهنري ميشو وأندريه جيد وجان كوكتو وأندريه لوت وليوبولد سنغور وطاغور.
***
بعد عودته إلى مصر عام 1919، أصبح طه حسين أستاذاً للتاريخ ثم للأدب العربي واللغات السامية في جامعة القاهرة، وشغل منصب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، كما تولى وزارة المعارف بهدف أساسي هو تحقيق رؤيته التربوية النى نادى بها فى كتبه ،فأصر على مجانية التعليم فى جميع مراحله كما سعى لرفع مستوى التعليم في مصر ليصبح مساوياً لأرقى الدول ، وساهم في تعزيز مكانة مصر الثقافية في العالم العربي والإسلامي من خلال تأسيس البعثات والمؤسسات الثقافية .
***
كتبت سوزان بريسو قصتها مع عميد الأدب العربي الكفيف فى كتاب ” معك ” والذي ألفته بعد وفاته مباشرة ومنذ الصفحات الأولى، تفصح لنا سوزان عن سرّ طاقتها وطبيعة خطابها، بقولها: “أكتب لأتقدم نحوك، واستمرّ في كتابة كل ما يعبر قلبي”. وفعلا يُشكّل كتابها صرخة حب إلى ذلك الذي كانت تسمّيه “صديقي” بالمعنى الذي تمنحه لهذه الكلمة، أي “الصديق الوحيد”. لعبت سوزان فى فى حياة زوجها دوراً كبيراً منذ لقائهما الأول في مدينة مونبيلي الفرنسية وباعترافه ” صديقتي كانت معلمتي ، بفضلها تعلّمت اللغة الفرنسية وتعمّقت بالأدب الفرنسي ، وبفضلها أيضا تعلمت اللاتينية وحصّلت ُ إجازاتي في الآداب ، وبفضلها أخيرًا تعلمت اليونانية وتمكّنتُ من قراءة أفلاطون بلغته . ” و ايضاً يكتب لها طه حسين ” بدونك أشعر فعلاً بأني ضرير ، لأني معك قادرُ على استشعار كل شيء وعلى الاختلاط بالأشياء التى تحيط بي ” . وتعبر سوزان الزوجة النبيلة بغنى السنوات التى عاشتها إلى جانبه بقولها ” شعرتُ بقوة لاتوصف بملء الهبة التي نعمتُ بها ، أنا التي وجدتك على طريقي ” . الكتاب تجاوز 300 صفحة ، نتعرّف فيه على السجلات التي عرفتها مصر آنذاك ، كإصلاح الدولة والتغرّب وأسُس الأمة وتأقلم الإسلام مع الحداثة ، وتفاصيل المعارك الأولى بين العلمانين من جهة ، والمتديّنين أو دعاة إسلام يبقى أساس المجتمع من جهة أخري .
انها قصة 84 عاماً من الكفاح والإرادة وتحدي العجز ، والأزمات فى ملحمة مليئة بحروب الصراعات القاتلة، لم يستسلم طه حسين لليأس ليصبح أحد أبرز الأدباء والكتاب ليس فى العالم العربى بل العالم أجمع ، وزوجه نموذج ملهم للزوجات فكانت خير سند ودعم لزوجها ، أمرأة تكبدت معاناة حقيقية خلال دعمها لزوجها الكفيف ، حكاية أضاء فيها الحب ظلام عميد الأدب العربي رغم اختلاف الدين والثقافة