
باحث وكاتب
لمرة لا يمكن أن تصبح عادة متبعة، تبدو ترجمة عنوان الفيلم الأميركي “الوصمة” إلى الفرنسية بـ”لون الكذب”، موفقة ودالة على ما في هذا الفيلم، بل أكثر من العنوان الأصلي الذي هو مع ذلك عنوان الرواية التي اقتبس الفيلم عنها، مع أن هذا العنوان موفق بدوره وينم عن إحساس الروائي القوي بتلك “الوصمة” التي تطبع المرء منذ بدايات حياته وتظل مرافقة له حتى نهاياتها، ناتجة من عنصرية، صحيح أنها تضاءلت إلى حد ما في مجتمع “العالم الجديد”، لكنها لم تفارق هذا المجتمع تماماً، وهي هنا بالتحديد وصمة التمييز العنصري ضد السود، والذي جعل الشاب “سيلك”، بطل الرواية يزعم بفضل لونه الفاتح، أنه من أصل يهودي كي يُؤمّن لنفسه مكانة اجتماعية ونجاحاً حين بات أستاذاً جامعياً، بل يُؤمّن حتى قبولاً من جانب أهل حبيبته مكنه من الاقتران بها، والكل، سوى أسرته السوداء، معتقدين أنه أبيض اللون، غامقه بقدر ما يكون لون اليهود غامقاً. ذلك هو المحور الذي بنيت عليه هذه الرواية التي كانت قد اشتهرت للكاتب فيليب روث (1933- 2018) حتى من قبل أن يحولها روبرت بنتون إلى فيلم سينمائي حقق نجاحاً كبيراً خلال السنوات الأولى من القرن الجديد، لا سيما كون أن البطولة عقدت لأنطوني هوبكنز في دور “سيلك”، صاحب الكذبة التي لم يتنبه إليها أحد، ونيكول كيدمان، الخادمة التي سيرتبط بها بعدما تفتضح كذبته، ويطرد من عمله الجامعي وتموت بالصدمة زوجته الأولى الحبيبة. فلا يكون له من معين سوى تلك الخادمة، إذ ينبذه الجميع، البيض لأنه ليس منهم متذرعين بكذبه، والسود لأنه منذ بداية شبابه آثر الانفصال عنهم انتهازية وربما عن احتقار.
ثلاثية أميركية ما…
إذاً نحن هنا أمام فيلم آخر من تلك الأفلام الجيدة بصورة عامة التي اقتبستها السينما، بجرأة وحصافة، عن روايات فيليب روث، ووصلت إلى ذروتها مع اقتباس الكندي المصري من أصول أرمنية، أتوم أغويان لروايته المبكرة “الأزمنة السعيدة”، لكنه دنا بقوة من المسألة العنصرية من خلال الفيلم الذي نحن في صدده هنا، والذي شكل الجزء الأخير، أدبياً وسينمائياً، من الثلاثية التي حمل جزآها الآخران عنوانين شهيرين بالنسبة إلى جمهور قراء فيليب روث هما، “باستورال أميركية” و”تزوجت شيوعياً”. ونعرف أن تلك الثلاثية ليست سوى طوبوغرافيا عائلية لأميركا ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي رصد فيها روث أحوال تلك الأمة، منطلقاً من مسقط رأسه نيوجيرسي غير بعيد من نيويورك، بل الولاية التي يمكن اعتبارها المقر الرئيس للطبقات الوسطى الأميركية التي هي أكثر من غيرها تعبيراً عما يعتبره روث “أميركا الحقيقية”. ولأننا هنا في “الوصمة” نجابه تلك الأميركا التي لا يمكنها أن تتصنع زاعمة لنفسها، ما هو مغاير لحقيقتها، ينكشف أمر “سيلك” الذي لخوفه من اللطخة التي تسم كل أميركي “حقيقي” منذ ولادته، يحاول أن يستفيد من لونه الفاتح الذي يجعله أقرب إلى اليهود منه إلى السود، ليزعم أنه يهودي، متعالياً، كما تفرض عليه ظروف المجتمع، على أبناء جلدته ساعياً وراء مكانة يستحقها، لكنها غير متاحة له كأسود.
السينما تحافظ على الجوهري
والحقيقة أن مؤلف الرواية، ومنذ الوقت الذي لم يكن الفيلم قد أنجز فيه بعد، أعلن أنه خائف من ألا يصل جوهر الفيلم إلى جمهوره، كما هو الحال مع الرواية التي قرئت على نطاق لا بأس به، ولكن هنا في الكتاب مع جمهور اعتاد التعامل مع أدبه، “ولست اليوم واثقاً من أن الأمور ستكون كذلك مع جمهور السينما العريض، ولا سيما الجمهور الذي سيشهد الفيلم ليس لمعرفته بأدبي، بل لإعجابه المعتاد بأداء بطلي الفيلم”. غير أن الكاتب لا يترك الأمور غامضة ومعلقة هنا، دون أن يُبدي إيمانه بأن “روبرت بنتون، مخرج الفيلم، ونيكولاس ماير مقتبس الرواية للسينما، سيكونان على مستوى الحمل بالنظر إلى أنهما اشتغلا معاً مسبقاً على فيلم “كرامر ضد كرامر” الذي حقق نجاحات هائلة بالنسبة إلى الجمهور العريض كما بالنسبة إلى جمهرة النقاد وتحكيميي الجوائز وصولاً إلى الأوسكار العديدة. ولذلك لا أشعر بقلق كبير إلا في ما يتعلق بما يبدو غامضاً في الرواية أصلاً…”، بحسب أقوال الكاتب التي عاد وعززها بعدما شاهد الفيلم معلناً رضاه “حتى عن الاجتزاءات التي قام بها كاتب السيناريو والمخرج لضرورات يمكن تفهمها”، كما أكد. وهذا ما فتح الطريق أمام اعتبار “الوصمة” من الاقتباسات الناجحة في عالم العلاقة بين الأدب والشاشة الكبيرة، ولا سيما أن الفيلم، وبشهادة روث نفسه، تمكن من الحفاظ على ما هو جوهري ويكاد هنا يطاول بصورة خاصة، الحيز الحميمي الذي ينحصر في العلاقة الصدامية الرباعية بين شخصيات الفيلم الأساسية: سيلك والخادمة عشيقته، وزوج هذه الأخيرة الجندي السابق في حرب فيتنام والذي يبدو لنا مصاباً بحالات من التوتر الشديد والعدوانية المطلقة، وأخيراً زوكرمان، الذي يطالعنا عادة في عدد لا بأس به من روايات فيليب روث، بوصفه الراوي كما حاله هنا، حيث من الواضح أنه، في نهاية الأمر أنا/ آخر لكاتب الرواية نفسه ومهمته هنا أن ينقل إلينا آلام سيلك وإحباطاًته جراء الحالة الخاصة التي يعيشها.
أميركا كما يراها روث مهما يكن من الأمر هنا، من الواضح أن نظرة فيليب روث إلى الفيلم ورضاه المعلن عنه، إنما يعود إلى أن الفيلم نفسه، وعلى رغم اجتزاءاته أو ربما بفضلها، كما أشار عدد لا بأس به من النقاد، قد خدم نظرة الكاتب إلى وطنه هذا وبصورة أكثر وضوحاً إلى ما سماه يوماً “الأكاذيب التي صنعت هذا الوطن وعلمت تاريخه”، وهي أكاذيب لم تكن في نهاية الأمر لا راسخة ولا عميقة”، وهذا ما أردت دائماً أن اعبر عنه في روايات – ولكن في تصريحات صحافية في بعض الأحيان – ربما يكون أهم ما فيها، هشاشة الغلاف الذي يغطي تلك الأكاذيب بحيث إن الأمور لا تحتاج إلى أية جهود كبيرة قبل أن تنكشف الأكاذيب وتزول الأقنعة وتتحول الحكايات الكبيرة إلى مجازفات ومغامرات هي من الضعف بحيث يضحى من غير الممكن الدفاع عنها أو تبريرها”. وتلك هي الحال هنا في الفيلم، ولكن أكثر من ذلك في الرواية نفسها، والتي لم يُخفِ روث أنه إنما استقاها هو في الأصل مما رواه له مرة صاحب العلاقة نفسه، أي سيلك الحقيقي الذي يؤكد الكاتب أنه كان يعرفه، بحيث إن الدور الذي يلعبه زوكرمان، بوصفه الراوي وكذلك بوصفه صديق سيلك المقرب، لم يأتِ من فراغ، بل من واقع حقيقي عايشه زوكرمان، وإن كعادته في روايات سابقة أخرى لفيليب روث، من موقع محايد لا يكاد يجد حاجة ليتدخل في أحداث يعترف غير مرة أنه يرويها دون أن يكون قادراً على تحقيق أي تبديل فيها “فما يصم أميركا أمر راسخ ثابت لا يمكن تعديله لأنه على عواهنه، هو الذي صنع ليس فقط أميركا، بل عظمتها وفرادتها، وربما أيضاً جدتها في تاريخ البشرية”.
Independent News