شريك في «استراتيجي آند» ورئيس قطاع الطاقة والموارد والاستدامة في بي دبليو سي الشرق الأوسط
لم يعد الحوار الدائر على مستوى العالم حول التحول في مجال الطاقة مجرد نقاش بشأن أمر مرتقب في المستقبل البعيد، بل أضحى واقعاً مُلحاً نعيش أصداءه في وقتنا الراهن.. فمع تواصل ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة عاماً بعد عام، أصبحت الحاجة إلى تنويع مصادر الطاقة وضخ استثمارات في وسائل التخزين والبنية التحتية الذكية أكثر إلحاحاً مقارنة بأي وقت مضى، في ظل وجود بعض العوامل التي أضافت مزيداً من الضغوط على القدرة على تحمل تكاليف الطاقة وتوفيرها ومنها: النمو السريع في عدد السكان، والتوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي، وزيادة الطلب على مراكز البيانات. ولم يعد الحديث عن تحول الطاقة اليوم يتعلق بنزع الكربون فحسب وإنما أصبح يتناول أمن الطاقة ومرونتها وقدرتها على الصمود في مواجهة مختلف التحديات.
وقد تحلى القادة في مختلف دول الشرق الأوسط، ولا سيما في منطقة الخليج، بالنضج والمسؤولية في تعاطيهم مع عملية تحول الطاقة، حيث تقر الحكومات في إطار تطلعها إلى بناء المستقبل بأن تنويع مصادر الطاقة والإسراع في تنفيذ مبادرات الاستدامة لا يمثلان ضرورة بيئية فحسب وإنما يحملان في طياتهما أيضاً فرصاً اقتصادية قوية. وتجدر هنا الإشارة إلى أن منطقة الشرق الأوسط تمتلك من الموارد والاستثمارات الاستراتيجية والرؤى الوطنية الطموحة، ما يمنحها مكانةً ومؤهلات فريدة تؤهلها لقيادة هذا التحول.
فإلى جانب ريادتها في تصدير الوقود الأحفوري بأنواعه، تتميز المنطقة بقدرتها على إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بأقل التكاليف، ما يمنح دول الخليج المرونة اللازمة للتعديل في مزيج مصادر الطاقة التي تستخدمها في كل مرحلة من مراحل التحول بدءاً من استخدام الهيدروكربونات وصولاً إلى الطاقة النظيفة، بما يحقق إدارة الانبعاثات ويضمن في الوقت نفسه تجنب النقص في الإمداد والصدمات السعرية.
وبالإضافة إلى ذلك، تستثمر المنطقة بكثافة في وسائل تخزين الطاقة والصناعات الكيماوية، ما يدعم دورها المحوري كمركز عالمي للطاقة.
استثمارات ذكية من أجل مستقبل مستدام
من واقع الاستثمارات الذكية التي شهدتها المنطقة في مجالات الابتكار والتقنيات الجديدة وخلق القيمة محلياً يتبين أن دول المنطقة توازن بدقة بين الأركان الثلاثة لمشكلة الطاقة التي تتمثل في: الحفاظ على تقديم طاقة نظيفة يعتمد عليها بأسعار ميسورة، مع مواصلة الوفاء بالطلب العالمي على الطاقة وتطوير عمليات أكثر مراعاةً للبيئة داخل البلاد.
الذكاء الاصطناعي وكفاءة الطاقة
من المنتظر أن يحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في مجال كفاءة الطاقة من خلال إحداث تحول في طريقة إنتاج الطاقة وإدارتها واستهلاكها، فمن خلال تحليل كميات كبيرة من البيانات الواردة من محطات الطاقة المتجددة وشبكات الإمداد بالطاقة والعمليات التشغيلية الصناعية، يستطيع الذكاء الاصطناعي توقع الطلب على الطاقة وتحسين توليدها وتقليل الفقد فيها إلى أدنى حد ممكن بشكل آني.
وهذا لا يسهم في خفض التكاليف وتحسين الاعتمادية فحسب، إنما أيضاً في تسريع عملية نزع الكربون من خلال ضمان استخدام كل وحدة من وحدات الطاقة بأكفأ طريقة ممكنة.
وبدءاً من الطاقة المتجددة ووصولاً إلى الصناعات الثقيلة، يفتح الذكاء الاصطناعي الباب أمام استخدام وسائل أذكى في رسم ملامح مستقبل الطاقة بما يشمل التوسع في استخدام مصادر الطاقة النظيفة وتعزيز مستويات المرونة في استخدامها.
بناء القدرات البشرية
يعتمد نجاح التحول في مجال الطاقة على تنمية القدرات البشرية، فمن الضروري على المدى الطويل تجهيز كوادر على درجة عالية من المهارة والمعرفة في مجالات مثل هندسة الطاقة المتجددة وتحسين استخدام الطاقة المدعوم بالذكاء الاصطناعي وإدارة الاستدامة، وهو ما يعني الاستثمار في التعليم والتدريب والمؤسسات البحثية التي تعد الشباب لقيادة التوجه نحو الاقتصاد الأخضر.
وهذا الربط بين تنمية القدرات البشرية وتحول الطاقة يتجلى بوضوح في الرؤى الوطنية لدول الخليج مثل رؤية المملكة العربية السعودية 2030، واستراتيجية الإمارات للحياد المناخي 2050، ورؤية قطر الوطنية 2030. فمن خلال تسليح الجيل القادم بالمهارات المناسبة، تضمن المنطقة المساهمة في عملية التحول بحيث لا تصبح عملية التحول عملية مستوردة من الخارج وإنما نتاج جهود من الداخل بسواعد أبناء الوطن وقيادة وطنية.
فرصة تاريخية
يمثل التحول في مجال الطاقة فرصة تاريخية لمنطقة الشرق الأوسط، حيث أعدت الحكومات مسارات واضحة في إطار مجموعة من الرؤى الوطنية الطموحة بهدف منح المستثمرين الثقة وفتح الطريق أمام استقرار الأسواق العالمية. وقد تُرجمت هذه الثقة في تزايد تدفقات رأس المال في مجالات الطاقة المتجددة والبنية التحتية والتكنولوجيا.
وعلى الرغم مما سبق، لا يُمكن أن تعتبر المنطقة محصنة ضد المخاطر الخارجية، لا سيما تقلبات بيئة التعريفات العالمية التي قد تؤدي إلى إعادة رسم ملامح أنماط التجارة وإحداث تأثير غير مباشر في أسعار الطاقة. وعلى الرغم من إمكانية كبح التأثير المباشر لهذه المخاطر الخارجية على منطقة الشرق الأوسط، إلا أن المخاطر غير المباشرة –مثل انخفاض أسعار النفط والتغيرات في تدفقات الاستثمار العالمي– يمكن أن تؤثر على النمو.
ومن المنتظر أن يحدد أسلوب التعاطي مع هذه المخاطر، مع الاستمرار في الوقت نفسه في الإصلاحات الجريئة، مدى قدرة منطقة الشرق الأوسط على إعادة رسم ملامح مشهد الطاقة لديها واستثمار هذا التحول في تحقيق المرونة والريادة الاقتصادية على المدى الطويل.