
باحث متخصص في الإعلام الرقمي والاتصال المؤسسي
كان من المفترض أن يكون هذا الخريف -كغيره في الأعوام السابقة- فصل الازدهار في نيبال، فهو موسم السياحة والاحتفالات وعودة المغتربين إلى البلد الآسيوي.
لكن خريف هذا العام حمل معه مشهداً مختلفاً؛ فنادق خربة، وطرق مقطوعة، وسيارات متفحمة، واقتصاد ينزف خسائر تُقدّر بنحو 3 تريليونات روبية (1 دولار أميركي = 141 روبية نيبالية تقريباً)، أي ما يعادل نصف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
إن الدرس المستفاد من هذا الخريف الأسود لم يكتبه المحللون السياسيون بل جيل جديد ظنته السلطات غائباً عن الوعي.
لم تكن الشرارة التي أشعلت هذه الكارثة أزمة اقتصادية أو سياسية، بل كانت قراراً حكومياً بدا للكثيرين تقنياً بحتاً، فمن يتوقع أن حظر منصات اجتماعية يؤدي إلى كل هذا؟! قرار الحظر كشف عن فجوة عميقة بين عقلية الدولة وعقلية الجيل الذي تحكمه. فعندما خرج جيل زد إلى الشوارع كانت صدمة السلطات واضحة. هذا الجيل الذي اتُهم طويلاً بأنه غير فاعل ومنغمس في عالمه الافتراضي أثبت أنه فاعل جداً ولكن في ساحة لم تفهمها الحكومة أو تقدر قيمتها.
لقد أبصر هؤلاء النور على ضوء شاشات الهواتف، وتعلموا التنظيم والتعبئة والاحتجاجات بلغة الألعاب والخوارزميات والوسوم. ليسوا بحاجة إلى قائد أو موجه، انطلقوا كسيل عارم اندفع بكل قوته جارفاً كل شيء في طريقه.
هنا يكمن الدرس الأول وربما الأكثر خطورة، وهو أن القرارات الحكومية التي تتخذ في غرف مغلقة بعيداً عن فهم حقيقي لسيكولوجية الأجيال الجديدة هي قرارات محكوم عليها بالفشل.
إن استناد السياسات إلى تقارير إدارية روتينية، دون رؤى من مراكز بحثية متخصصة يشبه السير معصوب العينين في حقل ألغام، وما حدث في نيبال ليس إلا جرس إنذار بأن تجاهل العالم الرقمي لم يعد خياراً.
وهكذا يقودنا الدرس الأول إلى الثاني. فإذا كان هذا هو تأثير جيل زد الذي يعتبر جيلاً انتقالياً بين العالمين الواقعي والرقمي، فما الذي يمكن توقعه من جيل ألفا الذي نشأ في عالم الواقع المعزز والافتراضي وفورة الذكاء الاصطناعي؟ وماذا عن جيل بيتا؟
إنها أجيال رقمية تماماً، والملاحظ أن روابطها بهويتها الوطنية ومكونات مجتمعاتها أكثر هشاشة من غيرها، وقد تظل كذلك ما لم تُخاطب بلغة تفهمها.
ومن هنا، يتجلى الدرس الثالث ولكنه ليس الأخير بكل تأكيد. إذ لم يعد كافياً أن تمتلك الدول جيوشاً واقتصادات قوية، بل يجب أن تمتلك أيضاً استراتيجية وطنية رقمية شاملة.
لا نتحدث هنا عن استراتيجية الرقابة والحظر، فتجربة نيبال أثبتت أنها تأتي بنتائج عكسية، بل نتحدث عن استراتيجية تهدف إلى تعزيز الواعز الوطني وترسيخه عبر الأدوات نفسها التي يستخدمها الشباب. استراتيجية تنتج محتوى جذاب يروي القصة الوطنية ويحتفي بالرموز ويخلق مساحات حوار رقمية إيجابية.
الدرس المستفاد من خريف نيبال القاسي هو أن الحكومات التي تهمل السردية الرقمية لا تخسر معركة علاقات عامة فحسب بل تخاطر بخسارة جيل بأكمله.
CNN Business News
مجلة 24 ساعة