
مساعد رئيس تحرير CNN الاقتصادية
أيام قليلة تفصلنا عن الاحتفال السنوي بالأديب العالمي نجيب محفوظ الذي حصل على جائزة نوبل في الأدب في الثالث عشر من أكتوبر من عام 1988، نجيب محفوظ لم يكن مجرد أديب روائي حاز نوبل للآداب فقط، بل كان مؤرخاً بارعاً للوجدان المصري في القرن العشرين، ناقداً بصيراً للتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشتها مصر.
ومن يتتبع أعماله يكتشف أن محفوظ لم يكن بعيداً عن الاقتصاد، بل صوّره في رواياته كمرآة للواقع، وكشف عبره عن صراع الإنسان بين الطموح والمصلحة، وبين القيم والفساد، وبين العدالة والحاجة.
منذ بداياته المبكرة في الثلاثية، انعكس الاقتصاد على حياة الشخصيات بوضوح، ففي بيت السيد أحمد عبد الجواد يظهر الثراء المرتبط بالتجارة في مواجهة الكفاح الشاق لأبناء الطبقة الوسطى، هنا تتجلى نظرة محفوظ للاقتصاد كقوة تصوغ المصائر، حيث تتحكم الملكية والمال في العلاقات الإنسانية وتحدد شكل السلطة داخل الأسرة والمجتمع.
ومع مرور الزمن، وتحديداً بعد ثورة يوليو 1952، نجد محفوظ يعكس في ميرامار (1967) تحولات الاقتصاد الاشتراكي ومحاولات الدولة إعادة توزيع الثروة، شخصيات الرواية القادمة من خلفيات مختلفة تتصارع حول فندق صغير في الإسكندرية، في إسقاط واضح على الاقتصاد الوطني الذي دخل مرحلة تجريبية محملة بالطموحات والتناقضات، محفوظ هنا يسجل بوعي كيف أن التحولات الاقتصادية الكبرى لم تغيّر في العمق طبيعة الصراع على المكاسب والمنافع.
في ثرثرة فوق النيل (1966)، فنجد الاقتصاد وقد تحول إلى بضاعة أتلفها الهوى، شخصيات الرواية الغارقة في اللامبالاة والترف الاستهلاكي تكشف عن جيلٍ فقد علاقته بالإنتاج الحقيقي، ليعيش في عزلة عن المجتمع الذي يئن تحت وطأة أزمات معيشية، محفوظ يصور الاقتصاد هنا كضحية انحراف القيم، حيث يختلط الفساد باللامسؤولية، وتضيع ثروة الوطن بين أيدي طبقة مترفة لا تعبأ بالمستقبل.
في رواية الكرنك (1974)، يعكس محفوظ صدمة المصريين بعد هزيمة 1967، ليس فقط سياسياً وعسكرياً، بل أيضاً اقتصادياً، الأمل الذي كان معقوداً على التنمية والانفتاح انهار أمام الفساد والقمع، الاقتصاد في رؤية محفوظ لم يعد مشروعاً وطنياً، بل أصبح ميداناً للمحاباة والانتهازية.
وهذا المعنى يتجلى أيضاً في الحرافيش (1977)، حيث يرمز الصراع على «التكية» وتوزيع الخيرات إلى دورة أزلية من الفقر والسلطة، تكشف كيف يتوارث المجتمع أزماته الاقتصادية جيلاً بعد جيل.
مع بداية السبعينيات وسياسات الانفتاح الاقتصادي، كتب محفوظ رواية أفراح القبة ويوم قتل الزعيم، ليعبر عن صدمته من اقتصادٍ تحوّل إلى سوق للأنانية والثراء السريع، هنا يصف محفوظ بمهارة كيف تلاشت القيم الجماعية لصالح منطق المال، وكيف أصبح الاقتصاد ميداناً لتغوّل النفوذ على حساب العدالة الاجتماعية.
إن نظرة محفوظ للاقتصاد المصري لم تكن تقنية أو إحصائية، بل كانت إنسانية في جوهرها، لقد رأى أن الاقتصاد لا ينفصل عن القيم، وأن الفساد ليس مجرد خلل مالي بل انهيار أخلاقي ينعكس على المجتمع كله.
ومن خلال شخصياته، جسّد محفوظ كيف يتحول الاقتصاد من أداة للنهوض إلى بضاعة أتلفها الهوى عندما تسيطر الشهوات والمصالح الضيقة على إدارة الثروة.
اليوم، ونحن نقرأ محفوظ في ضوء أزمات الاقتصاد المعاصر، ندرك أنه كان سابقاً لعصره، فقد حذر مبكراً من خطورة الانفصال بين السياسات الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، ورأى أن اقتصاداً بلا أخلاق هو مجرد رصيد منفوخ سرعان ما يتبخر، في أدب نجيب محفوظ نجد شهادة صادقة على أن الاقتصاد ليس مجرد أرقام، بل هو حياة الناس، قوت يومهم، وكرامتهم.
وهكذا يبقى محفوظ شاهداً على أن بضاعة الاقتصاد إذا تُركت لأهواء الفساد والاستغلال فإنها لا تُثمر إلا خيبة، تماماً كما قال: بضاعة أتلفها الهوى.
CNN Business News
مجلة 24 ساعة