الرئيسية / دنيا الفنون / ثقافة وفن / 130 رساما يستعيدون باريس عاصمة للفن العربي الحديث

130 رساما يستعيدون باريس عاصمة للفن العربي الحديث

لعل المعرض الجماعي الذي يقيمه “متحف باريس للفن الحديث”  تحت عنوان “حضور عربي” فريد ومهم، فهو يستكشف تاريخاً آخر للفن الحديث يعيد الاعتبار لما أهمله النقاد ومؤرخو الفن الغربيون، بعبوره ثمانية عقود من الإبداع في عالمنا العربي (1908 ــ 1988)، مبيّناً خلال هذه الرحلة المساهمة الأساسية لأكثر من 130 فناناً عربياً ليس فقط في انبثاق الطلائع العربية، بل أيضاً في بلورة مفردات الحداثة التشكيلية على مستوى دولي، وكاشفاً الدور الذي لعبته باريس في هذا السياق، من منطلق تشكيلها فضاءً خصباً للحركات المناهضة للاستعمار، منذ العشرينيات، والموطن الرئيس للحداثات الفنية الجديدة. وبالتالي المكان الذي كان يقصده فنانون من مختلف أنحاء المعمورة لمواصلة دراستهم، لتطوير فنهم وتقنياتهم، لنسج علاقات خصبة مع فنانين آخرين. وأحياناً للانطلاق في مشاريع فنية لم يكن ممكنناً إنجازها في وطنهم الأم نظراً إلى طابعها الثوري والتحريضي. دور محوري إذاً أفضى إلى ثمار تشكيلية فريدة لم تفتح شهية المؤسسات الفنية الفرنسية الكبرى على الفن العربي الحديث إلا منذ أقل من عقد، حين نظّم “مركز بومبيدو” معرض “حداثات متعددة”، عام 2015، الذي أعاد فيه تقديم مجموعاته الفنية بطريقة تشمل فنانين عرب مهمين، ثم استتبعه بمعرض “فن وحرية ــ قطيعة وحرب وسوريالية في مصر” عام 2017، وبمعرض “سيسموغرافيا الصراعات” عام 2021. مذّاك، نُظِّمت معارض عربية عديدة في فرنسا تعكس اهتماماً أكيداً، لكن لا يزال خجولاً في مداه.  من هنا أهمية معرض “حضور عربي” الذي يندرج ضمن هذه الديناميكية، لكنه يحمل طموحاً أكبر، سواء بعدد الأعمال والفنانين الحاضرين فيه، أو بأهدافه التي لا تقتصر على كشفه قرناً من التفاعلات بين الفنانين العرب والعاصمة الفرنسية، وعلى جمعه أسماء فنية عربية تحظى بشهرة في أوروبا، مع أسماء بقيت مساهمتها في الظل، لكنها لا تقلّ أهمية. بل يُستثمر هذا الكشف والجمع فيه للتعريف بتاريخ الفن العربي الحديث كما لم يُقدَّم في السابق، ولتحفيز الجامعات والمدارس إلى شمله في مناهجها، كونه لا يزال مهملاً منها، على رغم ارتباطه الجوهري بتاريخ الفن الفرنسي الحديث، وتاريخ باريس كعاصمة الفن الرئيسة في العالم.

هكذا، يتطلّع المعرض قبل أي شيء إلى أن يكون “مشروع إعادة تأهيل تاريخية، وأيضاً مشروع مصالحة فرنسا مع تاريخ الفن الما بعد استعماري، الذي هو تاريخها، كما أوضح أحد المشرفين على تنظيمه، مراد منتظمي. “تاريخ يمكن ضبطه وفقاً للسيرورة التي قادت إلى الإنهاء التدريجي لاستعمار الأراضي العربية والأفريقية والآسيوية، التي احتلتها فرنسا بين القرنين التاسع عشر والعشرين. بعبارة أخرى، تاريخ حساس هو في طور الكتابة، خصوصاً في مجال الفن الحديث، لكونه عرضة لتقلّبات وانعطافات، لقوى باطنية تعمل فيه ولا تزال غامضة في معظمها، ونادراً ما تم توثيقها. تاريخ تسكنه وجوه لا تتطلب سوى (العودة إلى) الظهور، على رغم أنها نشطت على الخط الأمامي لإخراجنا بجهدٍ جهيد من عالم إمبريالي وكولونيالي”.

مسار المعرض، الذي يشمل ما حصل على المستوى الفني في دول الشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية على حد السواء، يقترح رحلة مثيرة نعبر فيها القرن العشرين وفقاً للحركات والأحداث الفنية المهمة (مجلات، نصوص شعرية، بيانات…). رحلة توقّعها أعمال فنانين درسوا، عاشوا، ناضلوا أو عرضوا على الأقل مرة واحدة ثمار تجربتهم الفنية في باريس، وبالتالي تربطهم علاقة ملموسة، وغالباً موثّقة، بفرنسا. وثمة خيط آخر ملاحظ في مسار هذه الرحلة: مراحل إنهاء الاستعمار، والتفاعلات بين البلدان العربية والبنيات الفنية لباريس استعمارية ومناهضة للاستعمار، لمدينة شكّلت “ملجأ تضامنياً ونقطة اتصال استراتيجية، منصة شاملة ومُقصِية في الوقت نفسه”.

هكذا، يتيح المعرض لزائره فرصة الاطلاع على تطور وضع الفنان العربي المستعمَر، المنفي، أو العالق أحياناً بين عالمين، على مدار القرن العشرين، ضمن حركة ذهاب وإياب بين باريس والعواصم العربية الكبرى. لكن ينبغي ألا يُفهم الاهتمام الذي يبديه منظّموه بالمسارات الفنية العربية في باريس خلال القرن المذكور، بغية إدراجها في تاريخ فرنسي وطني أو شامل مثالي، كمجرّد فعل تعويض عن الإهمال الذي تعرّضت هذه المسارات له، بل أن يُنظر إليه قبل أي شيء كبادرة تحرر تؤدّي إلى اعتراف فرنسا بالمكوّنات العربية لتاريخها الفني الحديث. مكوّنات بقيت مع الأسف مغيّبة في مستودعات المتاحف الفرنسية، أو في تلك الأماكن المتفرّقة من باريس التي تركت فيها تلك المسارات الفنية العربية آثارها خلال القرن الماضي. باريس عاصمة فنية للعالم العربي؟ نعم، يجيب منظّمو المعرض، ولكن من دون أن تفوتهم حقيقة أن هذه المدينة لا توفّر دائماً مفاتيح النجاح، بل يمكن أن تتحول إلى جحيم، لأن التداول المستمر للفنانين فيها، على خصوبته، يجعل من إمكان الحضور والظهور فيها مسألة مكلفة وضارية للغاية. لا يفوت أيضاً منظمي المعرض أن “أسطورة باريس كعاصمة كوزموبوليتية يمكن لجميع المواهب الأجنبية أن تعبّر عن نفسها فيها بسلام، تنهار أمام قسوة التراتبيات الاجتماعية أو الفكرية”، كما استنتج ذلك الشاعر السوريالي المصري جورج حنين، بمرارة كبيرة، إثر خلافه مع أندريه بروتون ومجموعته. يبقى أن نشير إلى أن الأعمال الفنية التي يتألف منها المعرض، تحضر فيه وفقاً لترتيبها الزمني، وإلى أن مساره ينقسم إلى أربعة أجزاء رئيسية، يُطرَح في كل منها مسألة تأثير الفن الغربي على الفنانين العرب، والاستراتيجيات البصرية التي اعتمدها هؤلاء تارةً لاستيعابه واستثماره، وطوراً لتجاوزه أو حتى التحرر منه. وفي هذا السياق، رُصد جزؤه الأول لمرحلة النهضة العربية وسيرورة انبثاقها وتطورها في مصر ولبنان والجزائر بفضل المدارس الفنية والصحافة، وبموازاة ذلك، للمعارض الدولية في باريس الني شملت فنانين عرب، أبرزها “المعرض الاستعماري” عام 1931. في الجزء الثاني من المعرض، ننتقل إلى المرحلة الممتدة من عام 1937 إلى عام 1956، التي شهدت استقلال مصر ولبنان والعراق وسوريا، وتخلى فنانون عرب خلالها عن المراجع المستوردة والمفروضة لبلورة أساليب فنية متجذّرة في ثقافتهم المحلية، خصوصاً في مصر، بينما سعى فنانون آخرون إلى التواصل مع الطلائع الفنية الأوروبية واستثمار أفكارها لتثوير ممارسة الفن وخطابه، كمجموعة “فن وحرية” السوريالية المصرية. مرحلة طغى التجريد فيها على المعارض الباريسية الحداثية التي رصد منظّموها أحياناً فسحة داخلها لفنانين عرب تبنّوا هذا الأسلوب.

ومن الشرق الأوسط، ينتقل الجزء الثالث من المعرض بنا إلى المغرب العربي، خلال المرحلة الممتدة من عام 1956 إلى عام 1967، التي شهدت استقلال تونس والمغرب والجزائر، وسجّل فيها الفن الممارس في هذه الدول نقلة لافتة تمثّلت في تمكّن وجوهه من بلوغ الشامل في عملهم، من دون التخلي عن مراجعهم المحلية. أما الجزء الرابع والأخير، الذي يغطي المرحلة الممتدة من عام 1967 إلى عام 1988، فيتتبّع آثار طغيان الأسئلة السياسية والنضالات ضد الإمبرياليات على الفن سواء في العالم العربي أو في فرنسا، كما تشهد على ذلك أعمال فنانين عرب كثر، وأيضاً “صالون فن الرسم الشاب” في باريس الذي تمكّن بمعارضه من نقل النقاش الفني من الحقل الجمالي (تصوير/ تجريد) إلى الحقل الأيديولوجي.

Independent News

شاهد أيضاً

افتتاح مهرجان “موسكو” السينمائي الدولي الـ46

افتتح يوم 19 أبريل في موسكو مهرجان “موسكو” السينمائي الدولي الـ46. وأقيم حفل افتتاح المهرجان …