الرئيسية / صحافة ورأي / النقد الموسيقي العربي عندما يسلك طريق التحليل والذائقة

النقد الموسيقي العربي عندما يسلك طريق التحليل والذائقة

علي عطا
علي عطا

جمع فادي العبد الله في كتابه “في إثر الغواية: عن الموسيقى والنقد” (الكتب خان – القاهرة) عدداً من أبحاثه ومقالاته المتعلقة بالموسيقى والغناء العربيين ووزعها على ستة فصول، لتشكل في مجملها نظرة متأملة حول معنى الموسيقى، وضرورتها للوجود الإنساني. يفسر ويتأمل التجارب الموسيقية الكبرى في الشرق العربي؛ مركزاً على مصر ولبنان. ويدخل بالقارئ إلى عمق تجارب سيد درويش وأم كلثوم والسنباطي والأخوين رحباني ووديع الصافي وغيرهم. يأخذه أيضاً في جولة على بعض التجارب الموسيقية العربية، ومنها تجارب بليغ حمدي، حميد الشاعري، عمار الشريعي، أحمد عدوية.

يطرح الكتاب سؤالاً عاماً عن معنى وضرورة الموسيقى، عن ثنائيات تبدو ضدية لكنها ضرورية: الأصالة أم التجديد؟ الارتجال أم التأليف؟ ما هي ماهية التراث؟ وما علاقة الموسيقى بالكلام والطرب والتعبير؟. يطرح أيضاً تساؤلاً أساسياً عن كيفية تشكيل هويات الموسيقى الشرقية في بلادها المختلفة وتأثير الشرق على الغرب أو العكس. كذلك يتطرق الكتاب للكتابات النقدية عن الموسيقى الشرقية، ويشتبك معها مناقشاً الأسس التي تنطلق منها. وسبق للعبد الله أن أشرف وساهم في كتاب الفرنسية، عنوانه “سماع الشرق: موسيقات منسية، موسيقات حيَّة” صدر عام 2020 عن دار Actes Sud – Sindband  ومتحف MUCEM.  سبق أن نشر فادي العبد الله (1976) المقالات التي يضمها الكتاب الذي نعرض له هنا، في صحف “النهار” و”السفير” اللبنانيتين و”الحياة” اللندنية و”أخبار الأدب” القاهرية، وفي مواقع إلكترونية كـ “الأوان” و”المدن” و”معازف”. ونشر بعضها في مجلات عدة منها Third Text، و”كلمن” و”بدايات” ص 6. ولا تتبع المقالات التي يضمها الكتاب السيْر الزمني لنشرها الأصلي، “بل تحاول الانتظام في محاور تتناول معضلات عدة؛ راجيةً أن تحفر فيها مساحة لبعض النقاش”، على حد ما جاء في مقدمة العبد الله لكتابه. ومن تلك المعضلات صعوبة الكتابة عن الموسيقى لغير المتخصصين، ومن ثم كان لا بد من التقرب من الشائع قد الإمكان، أو شرحه دون تشويهه قدر المستطاع بأبسط طريقة ممكنة. ومن تلك المعضلات أيضاً تعقد الظاهرة الموسيقية نفسها، فإضافة إلى المادة الموسيقة في ذاتها، يتطلب النقاش في أحيان كثيرة – كما يقول العبد الله – الحديث عن الأشخاص الذين أنشأوها، وعلاقتها بتاريخ التقليد الموسيقي أو بإمكانيات الإنتاج أو بتقنيات التسجيل، أو تناول العلاقة بين الموسيقى والمجتمع الذي يستعملها ويستهلكها أحياناً لأغراض اجتماعية، وأحايين لأغراض لا تنتفي منها السياسة وتشكل الأوطان، ولو على حساب مدّ النسيان على أجزاء واسعة من الإرث الموسيقي. وتسعى المقالات التي يضمها الكتاب إلى “إنصاف الأساطير” (الفصل الأول) من وطأة التاريخ والشائعات عليها، وتنظر – كما يقول العبد الله – في الوظائف التي يمكن أن تشغلها؛ سواء على مستوى “حاجتنا إلى الفرح (الفصل الثالث) والخفة اللذين تجليا عبر عدد كبير من الموسيقيين الفريدين ومحاولاتهم للعثور على صوت يلائمهم برغم إشكاليات الإنتاج والتطور التقني وجمود صوت الفرق العربية عموماً، أو على مستوى الوظيفة الفردية التي لعبتها الموسيقى في مجال صياغة صورة “للبنان الصافي” (الفصل الثاني) ومخيلته وهويته السياسية، أو بشكل أوسع عموماً في الجدلية التي تُنشئها الموسيقى باستمرار بين “الأصالة والنسيان” (الفصل الخامس). بحيث يبدو هذا الأخير – كما يؤكد العبد الله – شرطاً أصلاً لإنتاج الأصالة والهوية.

وكما يقول فادي العبد الله فإن ذلك يتقاطع باستمرار مع “المتلقي المتأرجح”، بين أن يستغرق “في لجظة الطرب” (الفصل السادس) مباشرة وبين كل الخطابات النقدية السابقة التي تشكل إلى حد كبير وعيه وذائقته وتفرض علينا بالتالي – يضيف العبد الله – أن نلجأ قبل تلك اللحظة إلى “النقد ونقده (الفصل الرابع) لتحرير تلك المساحة التي تتيح له لقاء الموسيقى بأكبر قدر متاج من المباشرة المتخففة من الخطابات. وفي مستهل ذلك الفصل مقال عنوانه “ضرورة التدقيق بمسلمات النقد الموسيقي”، يتناول فيه فادي العبد الله أساساً كتاب سليم سحاب “الموسيقى العربية في القرن العشرين: مشاهد ومحطات ووجوه” (دار الفارابي – 2009) بالنقد معتبراً أن سحاب لم يجاوز الفصل السائر ما بين “القديم” و”الحديث”. ورأى أن سليم سحاب اقتصر في تناوله على التجربة “التجديدية” التي افتتحها عبد الوهاب والقصبجي، “في حين تغيم ملامح القديم ويلفها تشابه غامض لا يدعو إلى التدقيق فيه” صـ 182. كما لاحظ أن هذا النقاش يدور أساساً وحصراً فيما يخص التسجيلات في القاهرة (ثم في بيروت)، ولا يتناول من قريب أو بعيد المشهد الموسيقي في الدول العربية الأخرى. وفي هذا السياق يرى العبد الله أن مأزق النقد “الجاد” الحالي (فضلاً عن صعوبة العثور على لغة تشرح بدقة المفاهيم الموسيقية لغير المتخصصين) هو في الاعتماد على الاستساغة القريبة المتناول، والناجمة عن الشهرة والذيوع، بدل التدقيق في أسس ومعايير الذائقة التي يبني عليها أحكامه. ويفترض هذا النقد الذي يمثله كتاب سحاب بشكل وافٍ، بتعبير فادي العبد الله، اعتبار كل ما استساغته الأذن العربية وهضمته متجانساً مع “الروح الأساسية للموسيقى العربية”. ولو كان الأمر كذلك – يضيف العبد الله – فإما هذه الأذن رفضت (وهذا ما لم يحدث) كل الموسيقى المطروحة منذ ما بعد العام 1975 (الذي رحلت في بدايته أم كلثوم ويعتبره سحاب بداية انهيار التلحين والغناء العربيين) وإما أن هذه الموسيقى الموصومة بالانحطاط، متجانسة مع هذه “الروح الأساسية”.

نقد مختلف

والواقع – يقول العبد الله – أن الاستساغة بحد ذاتها بنت عوامل عديدة، اجتماعية وثقافية وإعلامية، وليست وليدة “الروح”. وفي الفصل السادس، وعنوانه “لحظة الطرب” مقال حمل العنوان نفسه، عبر فيه فادي العبد الله عن قناعته بأن الطرب هو دعوة إلى لعب بلا نهاية، وهو في الوقت ذاته – مثلما يصف الفيلسوف ومؤرخ الفلسفة الفرنسي غرانسوا شاتليه الواقع – حاضر، حيوي وجديد في صورة ما، ومثل الفلسفة، “حيث إنه من وظيفة الكتابة عنه أن تعبر عن قدرته هذه وأن تحميها، القدرة على أن يتحقق دون أن يتكرّر ولا أن يُستنفد” صـ 384. وبالعودة إلى مقدمة الكتاب، الذي جاء في 409 صفحاتمن القطع فوق المتوسط، فإن العبد الله يرى أنه ربما أن تكون المقالات التي حواها؛ في ذاتها وعلى علاتها، “محاولة لبناء نوع مختلف من النقد، لا ينحصر في مجال التقنية ولا التأريخ ولا الموسيقولوجي، بل يسعى، نسجاً على راحلين عظام مثل نزار مروة، إلى جعل النقد عملية “أشكلة” للمسموع وجهداً يودّ أن يكون لائقاً بجهد إنتاجالموسيقى نفسها من خلال توسيع النظر إليها وربطها بصور أشمل للمجتمع والفكر الراهنين” صـ 8. وفي الفصل الأول وعنوانه “إنصاف الأساطير” يجتهد العبد الله في تفنيد الرأي القائل بأن الطرب انتهى بموت أم كلثوم، لكنه يرى أن “الطرب الكلثومي” بحسب قواعده، بات المتشبثون به يكتفون بتكراره ولا يتكفلون باستمراره حياً، أيفناً مقبلاً بموارده على التجدد. ويضيف في هذا الصدد: “هكذا بدا وكأن أم كلثوم كانت خاتمة المطربين بعد أن استجمعت ذوقاً وقدرات كل موارد هذا الفن العظيم”. ويستطرد: “أما النموذج الوهابي المعتمد على أناقة الجملة ورشاقتها فقد تطور في اكتماله الحليمي (عبد الحليم حافظ) والنجاتي (نجاة الصغيرة) والفيروزي، “إلى ما نسميه اليوم التماهي وإلغاء المسافة بين الشاعر والمغني والمستمع، وهو ما يجد آخر معاقله في تشبث المطربين الذكور به وبرومانسيته في مقابل موجة عارضات الأزياء القادمات إلى غناء، (أشبه بالصامت من شدة جهد مهندسي الصوت في إخفائه)، بجمالٍ لا يوازيه إلا قراءتنا حول تطور الطب التجميلي ونجاحاته” صـ 33.

تشكيل الذائقة

وفي الخلاصة يرى العبد الله أن النقد أيضاً دفاع، يسعى إلى الموضوعية، عن ذائقة شخصية، لكنه في الوقت عينه يشكل هذه الذائقة باستمرار كي يسعها أن تكون بحق شخصية؛ “فبعد أن ننطلق من ذائقة عمومية شائعة – ونلتقي بكثيرين ممن يعرفون ويحبون ويتواصلون مع هذه الذائقة العمومية – ومن خطابات نقدية مماثلة الشيوع، تتشكل الذائقة الشخصية ببطء، عن طريق عزل صاحبها باستمرار، كلما استثمر في المعارف الضرورية لهذه الذائقة وفي تفريد ما يعجبه، وبقدر ما يتوسع في المعرفة يضيق عليه السماع”. ويختم بالتأكيد على أن في هذا افتراقاً كبيراً عن نزار مروة وسواه ممن استندت ممارساتهم النقدية إلى مشروع موجود ومدعوم بقوى اجتماعية وسياسية ومزاجٍ فكري عام، وربما يشير هذا إلى اختلاف زمننا عن زمنهم، وتوحدنا وتذرّرنا عن جماعاتهم، بقدر مساوٍ إن لم يفق إشارتَه إلى اختلاف المقاربات الفردية والفكرية”.

فادي العبد الله مواليد طرابلس (لبنان) عام 1976. شاعر وناقد موسيقي وحقوقي، وله مساهمات في مجالات الترجمة وفي الفن المعاصر ومشاركات في بيروت والشارقة والقاهرة وأوكسفورد وهارفارد وستوكهولم وأمستردام ومارسيليا وروتردام وفرانكفورت، يقيم ويعمل في هولندا. وأصدر بين 1999 و2022 الدواوين الشعرية التالية “غريب وبيده كاميرا”، “يد الألفة”، “يؤلفنا الامتنان”، “توقيعات”، أشاطرك الألم برهة والود طويلاً” و”البياض الباقي

Independent News

شاهد أيضاً

«ساق البامبو» في سوق التحف

تصدر الروايات الكبرى عادة في المجتمعات الكبيرة التي تشهد الحروب والأحداث والتحولات الدرامية. وهكذا ظهر …