الرئيسية / صحافة ورأي / كيف تقاطعت حياتى مع أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام

كيف تقاطعت حياتى مع أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام

محمد أبو الغار
محمد أبو الغار

 

بعد كارثة 1967 فقد الكثير من المصريين الأمل فى المستقبل، وانطبق ذلك على دفعتى حديثتى التخرج (220 طبيبا)، بقى فى مصر ثلثها وهاجر أقرب الأصدقاء فؤاد ستار ورضا الصاوى، وعلى خليف وآخرون. وبدأت أنا مشروع الهجرة بالسفر إلى شمال أوروبا فى انتظار أوراق أمريكا. كنا بعيدين عن مصر، فلا يوجد إنترنت ولا قنوات فضائية والاتصال التليفونى كان صعبا، وكنت أقرأ الأهرام فى مكتبة بلدية كوبنهاجن متأخرا أسبوعا، وكانت حرب الاستنزاف على أشدها وقلوبنا تتقطع على مصر وأبنائها. وفى سهرات كوبنهاجن استمعت لأول مرة بتركيز لأغانى إمام ونجم مسجلة على شريط كاسيت قادمة من مصر، أثارت هذه الأغانى مع مجموعة المصريين شجونى وبعد أن كنت تاركا الوطن يائسا من الإصلاح بعد هزيمة مرة واقتصاد منهار وظلم شديد للمواطنين وآلاف المحبوسين أثارت كلمات نجم وألحان وغناء إمام مشاعر رهيبة بالإحساس بالوطن وأوضحت لى مدى التصاقى بتراب البلد الذى تركته غضبا. وبعد ليلة طويلة مع نجم وإمام كان قرارى بإلغاء هجرة أمريكا التى كانت وشيكة وعدم الاستمرار فى العمل فى أوروبا والعودة إلى المحروسة، وعدنا أنا وزوجتى وابنتى هنا التى ولدت فى السويد، واشترطت زوجتى أن تكون العودة لمصر نهائية وبلا شحططة أخرى. وبالتأكيد كانت كلمات وأغانى نجم وإمام سببا مهما فى إلغاء مشروع الهجرة.

وبعد ثلاثة أيام من عودتى إلى مصر دعانى الصديق العزيز الراحل، د. محسن خطاب، إلى الاستماع إلى إمام ونجم فى شقة صديق. ذهبنا إلى شقة فى العجوزة فى الدور الأرضى وتوافد الأصدقاء والمعارف، وكان الباب مفتوحا طوال الليل، وبدأ الغناء فى العاشرة والنصف وكانت كلها أغان وطنية، والحماس والشجن كانا على أشدهما، وساعد على ذلك ظروف الوطن فى عام 1972 واليأس من بدء حرب التحرير. وكان الجو صيفا والشبابيك مفتوحة وامتلأت الشقة والبسطة أمام الباب وتجمهر العشرات أمام الشباك فى الشارع للاستماع، وصهلل إمام وتحمس نجم، وألقى بعض القصائد وتوقف الغناء فى الثالثة صباحا، وذهبت إلى بيتى لا أصدق ما حدث، واعتبرت أن هذه الليلة من أجمل ليالى حياتى، ولم أنم طوال الليل أفكر فى مصر وما حدث لها، وأنها لابد أن تستعيد نفسها مرة أخرى، وكان واضحا أن الجميع كانوا مستعدين للتضحية بكل شىء من أجل مصر.

اتصلت بمحسن طالبا أن يعرفنى صديقه بنجم وإمام لأدعوهما للغناء فى بيتى وبعد أسبوع اتفقنا على يوم وذهبت أنا وأصدقائى الراحلين د. محسن ود. محمد شرف إلى حوش قدم ووصلنا إلى حجرة الشيخ إمام بصعوبة ووجدناه مستلقى على السرير فى انتظارنا ومحمد على الرسام كان يجلس على الأرض، وقالا اتفضلوا نجم زمانه جاى، ولم يأت نجم، وبعد ساعة نزل محمد على مع د. محسن للبحث عنه ووجدوه فى قهوة وجاء نجم ثم قال لى محسن: ماذا سوف نقدم لهم مع الضيوف وقلت له إننى سألت وعرفت أنهم يحبون الكباب، فطلبتها، وقال محسن: لازملهم توفر المزاج، فقلت: الحكاية دى صعبة، فقال: ضرورى وإلا القعدة متنفعش. فقلت: أنا لا أدخن ومن يدخن من الضيوف عندى يخرج فى البلكونة. فقال لى: النهارده نغير النظام، شرف يعرف صديقا رتب له موضوع المزاج وبعدين قالوا هم يطلبوا جوزة فقلت هذا مستحيل واتفقوا على أن السجائر كفاية، فى النهاية وصلنا البيت وكان عندنا طرقة طويلة تفصل حجرات النوم عن حجرات المعيشة، وكان الحضور حوالى 20 صديقا، منهم كثير من الأطباء وأذكر منهم الراحل فرج فودة، واستمرت السهرة حتى الثالثة صباحا، وكانت سهرة من سهرات العمر النادرة، وقام الأصدقاء بتوصيل نجم وإمام ومحمد على إلى بيوتهم وسجلت الأغانى على شرائط الكاسيت، ولكن للأسف هذه الشرائط تلفت قبل أن نفرغها فى الوسائل الحديثة.

حضرت سهرات أخرى فى أماكن مختلفة وحفظت مع الجميع الأغانى والأشعار ومازلت أحفظ معظمها. واستمرت المعرفة، وأيام مظاهرات الطلبة فى الجامعة مطالبين السادات بضرورة الحسم وكنت مدرسا شابا حديثا فى كلية الطب فساعدت الطلبة على تهريب الشيخ إمام داخل الجامعة للغناء فى احتفال كبير، وساهم آخرون فى إدخال نجم.

طلب نجم مقابلتى أكثر من مرة وذهبت إليه فى مقر ميريت القديم فى شارع قصر النيل عند محمد هاشم، وكان حديثا رائعا. وآخر مرة قابلت فيها نجم كان فى مطار عمان حيث كنت فى مؤتمر طبى، وكان نجم مدعو للقاء هناك قبل فترة قليلة من رحيله. فى السنوات الأخيرة تباعدت اللقاءات، ولكن الود كان مستمرا والحب والتقدير موجودين.

لم أحضر جنازة الشيخ إمام لأنى كنت مسافرا فى الخارج. ولكن يوم وفاة نجم ذهبت مع جموع المصريين من مختلف الفئات والتوجهات إلى ميدان الحسين ووقفنا أمام المسجد وتحدث معى حديثا طويلا السفير الراحل والصديق الحميم شكرى فؤاد ومشينا فى جنازة نجم.

منذ سنوات دعانى الأستاذ سيد عنبة، مؤسس جمعية الشيخ إمام، وحضرت الاجتماع التأسيسى وأصبحت عضوا مؤسسا، ومازلت أواظب على دفع اشتراك الجمعية البسيط.

بالتأكيد نجم وإمام ظاهرة مهمة فى تاريخ مصر. وأعمال نجم كلها مكتوبة فى دواوين مطبوعة، وتسجيلات غناء الشيخ إمام موجودة على الإنترنت، وهناك حفلات رائعة مسجلة بالصوت والصورة، أهمها حفلات باريس وحفلات تونس وبعض الحفلات فى البيوت.

محمد على الرسام الذى كان أحيانا ضابط الإيقاع، اختفى بالتدريج ولا أعلم ماذا حدث له.

أعتقد أن نجم شاعر كبير وموهوب ومعجون بطين مصر وتاريخه يؤكد أنه صقل موهبته الخارقة بمجهود كبير فى القراءة والاستماع للآخرين. بالطبع هناك فئات وأفراد فى مصر لم يحبوا نجم، بعضهم لأسباب سياسية، حيث كان يعبر عن اتجاهات مخالفة لأفكارهم وآرائهم السياسية، والبعض يعتبر أنه يتكلم ويقول شعرا بلغة فيها «قلة أدب» حسب مفهومهم. ولكن بالتأكيد الأغلبية العظمى من المصريين أعجبوا بشعر نجم، ولم يعجب السياسيون لصراحته وكلماته اللاذعة ضد الديكتاتورية وقهر الإنسان.

الشيخ إمام، فى رأيى، أصبح نجما بألحانه العظيمة وأدائه الرائع، فصوته ليس عظيما، لكن الأداء فى الغناء تكون له أهمية الصوت، فمن استمع إلى زكريا أحمد والريحانى وعزيز عثمان يفهم ذلك جيدا. صحيح أن بعض ألحانه كانت متشابهة لأنها كانت تحض على الثورة وتنادى بالحرية.

تحية حب وتقدير لهؤلاء الفنانين العظماء الذين أسعدوا الشعب المصرى وانتشروا فى أنحاء الشعوب العربية وساهموا فى النضال من أجل تحرير الأرض وشجعوا الناس وحفزوا السادات على اتخاذ قرار العبور، بالإضافة إلى أغانى الحب والعشق وأغانى الحرية والطبيعة، وكلها أغانٍ تدعو إلى الإنسانية، فلروحهم السلام.

قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك

شاهد أيضاً

النقد الموسيقي العربي عندما يسلك طريق التحليل والذائقة

جمع فادي العبد الله في كتابه “في إثر الغواية: عن الموسيقى والنقد” (الكتب خان – القاهرة) …