
الحبر، نور أسود، كنز سائل على الورق.. والورق حَفَّاظ أفكار، ونجاوى، وآراء، لا يُبْلى، ولا يعتق، ولو اصفر لونه.
وليس ألذَّ فى الشَّمِّ، ولا أضوع، من حبر فى كتاب خارج من تحت أسنان آلة الطبع، وبين دفتيه ما يثرى المدارك، من أفكار، ونظريات، وقصص الصَّبابة، والشوق، وحكايات السمر والعتب، وهو حافظ للتراث، ولتواريخ ما حَدَثَ وحَصَلَ. ما استطاعت «التكنولوجيا» الحديثة أن تَحطَّ من قدر ومقام الكتاب، والبديل الذى قدمته للحبر والورق، لم يبعد الناس عن الكتاب الملوس بالأصابع والعيون. وعندنا الدليل فى دور النشر، التى لمَّا تزل تنشر، وتطبع، وتوزع، وتجنى ثمار النشر والكتب. ومعرض الكتاب هذه السنة فى «المحروسة»، يفقأ عين الحسود، فهو، كما السنوات التى مضت، يحفل بكل جديد ومتنوع.
هذه السنة، مثل كل سنة، نذكر بتقدير، من فكروا، وأطلقوا، عرس الكتاب، الذى سار ذكره كل مسير فى عالم النشر والثقافة، وصناعة الكتب، فى العالم العربى، وما بعده، فصار الإقبال عليه يزداد سنة بعد سنة.
نذكر عبد السلام الشريف، صاحب الريشة واللون والإبداع فى الفن التشكيلى، الذى أطلق الفكرة، ونمَّاها بدأبه، وإصراره، فتلقفها، كبير من عندنا، كان ثروة للثقافة، واسمه على مسمى ثروت عكاشة، الذى عكف على وضع خطة لبلورة الفكرة، وأوكل إلى الدكتورة سهير القلماوى، التى كانت على رأس «المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر» (صار اسمها «هيئة الكتاب»)، فما كان منها إلاَّ أن أرسلت مستشارها إسلام شلبى إلى «لايبزيج»، فى ولاية «ساكسونيا»، شرق ألمانيا، التى تعد إلى جانب «فرانكفورت» من أهم مراكز طباعة الكتب فى العالم، فوقف إسلام شلبى فيها، ومن الناشرين، والمنظمين لمعارض الكتب، كيف يعدون وينظمون معارضهم، وحمل معه الأفكار، ورتبها فى دراسة، وضعها بين يدى الدكتورة سهير القلماوى.
على مدى أسابيع طويلة كان التداول، والمراجعة، والمناقشة، حتى رأى «معرض القاهرة الدولى للكتاب» النور سنة ١٩٦٧. ومثلما نجح إسلام شلبى فى «لايبزيج»، نجح فى بيروت، عندما طلبت الدكتورة سهير القلماوى منه تأسيس فرع للهيئة العامة للكتاب فى العاصمة اللبنانية، التى كان ولما تزل «مطبعة العرب»، وطبع التراث الأدبى المصرى. وكان أن طلب منى إسلام شلبى معاونته على إدارة الفرع وتولى المهام التنفيذية فيه، فعملنا ونجحنا فى بيروت.
■ ■ ■
يطيب ذكر الدكتورة سهير القلماوى، فلولاها لما كان لنا، فى المحروسة، كل سنة «عرس» للكتاب، ننتظره كل سنة، وتتهافت دور النشر لعرض نتاجها فيه.
كرست نفسها للعلم، منذ حداثتها، فعملت كل حياتها مستنزلة وَحْيَهُ البعيد، فإذا بها تختزن منه عتادًا من بيان أنيق، عذب، وثقافة، وأدب، وتاريخ، قلَّ أن اجتمع مثله فى امرأة. سنة ١٩٢٨ تخرجت فى «الكلية الأمريكية للبنات»، تمنت أن تدرس الطب كوالدها، فى كليه الطب فى «جامعة القاهرة»، إلا أنها لم توفق فى دخولها. فشجعها أبوها على التخصص فى الأدب العرى عوضًا عن الطب والطبابة. امتثلت، دخلت كلية الآداب، فكانت أول «شابة» بين أربعين شابًا فى الكلية.
لمس الدكتور طه حسين، (رئيس قسم اللغة العربية ورئيس تحرير مجلة «جامعة القاهرة»)، منها موهبة، ليس فى التحصيل، والفهم، والاستيعاب فقط، إنما فى الكتابة أيضًا، فأخذ بيدها، وأرشدها، وجعلها مساعدة له فى رئاسة تحرير المجلة، فتتلمذت عليه، وكانت أول مصرية تحصل على ما يسمى، فى ذاك الوقت، «رخصة صحافة»، حصلت على الماجستير فى الأدب، وبدأ تحضير أطروحة الدكتوراه، فنالت منحة سمحت لها بإتمام أبحاثها، ومراجعها، فى باريس. سنة ١٩٤١ نوقشت أطروحتها، لتصبح أول امرأة تحصل على الدكتوراه فى «جامعة القاهرة».
وراحت تشق طريقها لتصبح سنة ١٩٥٨ رئيسة قسم اللغة العربية حتى سنة ١٩٦٧.
تنكبت المسؤوليات والمناصب:
رئيسة «الاتحاد النسوى» المصرى (١٩٥٩)؛ رئيسة خريجات جامعة المرأة العربية، حيث أسست التعاون بين «الاتحاد المصرى» والتحاد العالمى للجامعات؛ رئيسة «الهيئة العامة المصرية للسينما والمسرح والموسيقى»(١٩٦٧)؛ رئيسة «مجتمع ثقافة الطفل»(١٩٦٨)؛ رئيسة «المؤتمر الدولى للمرأة» (١٩٦٠)؛ رئيسة أول اجتماع للفنون الشعبية. وانتهى بها المطاف إلى مجلس الشعب فى الدورات الانتخابية ١٩٥٨ و١٩٧٩و١٩٨٤.
■ ■ ■
سهير القلماوى من أغزر الكاتبات عندنا مادة، رقيقة الشعور، قوية المخيلة، لبقة الإنشاء، إنسانية الروح، وطنية النزعة، قومية المطالب، كانت معلمة، ومرشدة، وهادية، بثقافتها التى لا تبرج فيها، وعلمها الواسع، ووطنيتها الواعية البصيرة والمتبصرة.
مع بداية العقد الثالث من هذا القرن صدر كتاب بالإنجليزية يحمل عنوان: «السيدات الرائدات من مصر القديمة والشرق الأوسط» Female Pioneers from Ancient Egypt and theME عن أكثر السيدات تأثيرًا فى مجتمعهن وعلى مستوى الشرق الأوسط، بدءًا من الحضارة المصرية القديمة وحتى هذه اللحظة الراهنة. شارك فى تأليفه مجموعة من الكتاب والباحثين من جنسيات مختلفة.
فى الفصل السابع منه بعنوان: «سهير القلماوى: أيقونة تعليمية مصرية رسمت صورة النهضة الثقافية العربية على مر القرن العشرين»، يصفها الكتاب بأنها، رائدة تشكيل الوعى الثقافى كأكثر الشخصيات النسائية تأثيرًا فى المجتمعين المصرى والعربى مركزين على فكرة إقامة «معرض القاهرة الدولى للكتاب»، وفضل الباحثة العنيدة المجتهدة جدا فى رسالتها للحصول على درجة الدكتوراه، لتصحيح أوضاع رؤية العالم أجمع إلى الموروث الشعبى لكتاب «ألف ليلة وليلة»، بعدما كان مجرد حكايات للتسلية العذبة والفجة عند الجميع.
■ ■ ■
يتجدد عرس الكتاب، فى «المحروسة» ومعه تتجدد الذكرى، ذكرى الأربعة: عبدالسلام الشريف، ثروت عكاشة، إسلام شلبى، سهير القلماوى، رحم الله أرواحهم، الذين لولاهم، لما كان لنا ذلك العرس وتلك البهجة.