يجري تكريم المخرج الفرنسي فرنسوا تروفو في ظل محاولات عدة من بعض لإعادة قراءة منجزه في ضوء تبدل المفاهيم التي طرأت خلال الأعوام الأخيرة، خصوصاً في ما يتعلق بالتعامل مع الممثلات داخل مواقع التصوير أو العلاقة بينهن والمخرج (خصوصاً في فرنسا)، بعدما كانت لازمها طوال عقود كثير من علاقات القوة والسلطة الأبوية والوصاية. فتروفو الذي كان لأعوام شخصية تكاد لا تمس أصبح عرضة للانتقادات التي تراوح ما بين العتب والهجوم، وفي مهرجان لوميير الأخير الذي عقد داخل ليون قالت المخرجة الفرنسية جوستين ترييه الفائزة بـ”السعفة الذهبية” عن فيلمها “تشريح سقوط”، إن تروفو لا يعجبها. في حين كانت الممثلة ماشا ميريل صرحت سابقاً بأن تروفو كان يستخدم السينما لممارسة الجنس مع الممثلات، حتى عنوان أحد أفلامه “قبلات مسروقة” أصبح اليوم غير مرحب.
وكثيراً ما اعتبر تروفو أن السينما “فن أن نفعل أشياء جميلة لنساء جميلات” في تعبير أصبح شهيراً، وقد يمكن تلقيه اليوم في ظل المفاهيم الحالية بمعناه الأخلاقي الحرفي المحض. وهذا كان مزاج تلك الحقبة. حتى زميله الذي تخاصم معه لاحقاً جان لوك غودار ابتكر عبارة “فتاة وفي يدها مسدس يكفيان لصنع فيلم”. فهما عاشرا أجمل الممثلات من آنا كارينا إلى فاني آردان وغيرهما كثيرات، لا بل هناك تمجيد للأنثوية في معظم أفلام “الموجة الفرنسية الجديدة” حد أنها نبذت الشخصيات الذكورية أو الـ”ماتشو”، خلافاً للسينما الأميركية التي جعلت من هؤلاء شغلها الشاغل. ويقول الصحافي والناقد إريك نولوف الذي وضع كتاباً عن المخرج الكبير بعنوان “رسالة مفتوحة إلى فرنسوا تروفو”، أعيد نشر طبعة جديدة منه أخيراً، “السينما عند تروفو كانت طوق نجاة. فهو كاد يعيش حياة جرمية، التحق بالجيش قبل أن يهرب ولامس السجن. ووجد في شخص الناقد أندره بازان أباً روحياً لكونه ولد من أب غير معروف”.
إلى هذا الحد كانت حياة تروفو متداخلة مع فنه. ووثائقي بعنوان “سيناريو حياتي” عرض أخيراً على التلفزيون الفرنسي أضاء على عناصر جديدة، وبخاصة من خلال الكشف عن رسالة للمخرج موجهة إلى رولان تروفو، الرجل الذي كان يعتقد أنه والده البيولوجي. ويرد فيها تروفو نقطة بنقطة على غضب عائلته التي وجدت أن فيلمه الأول الذي عدته وسائل الإعلام سيرة ذاتية، يقدم رؤية مشوهة للواقع تكاد تكون أقرب إلى التشهير. وفي رده تحدث تروفو بوضوح عن ذكريات سوء المعاملة الجسدية التي كان يتعرض لها على يد والدته، إضافة إلى الإساءة النفسية التي يصورها الفيلم. ومن خلال الكلمات القاسية الخالية من العاطفة نفهم أن الفيلم هو “أقل” مما عاشه في الواقع.
وفي “مجون الصبا” (1959) أول أفلامه الذي عرض في مهرجان “كان” ويعد أحد الأعمال التأسيسية لـ”الموجة الفرنسية الجديدة” روى جزءاً مما عاشه، نابشاً في تجربته الخاصة. وإنه أول ظهور لشخصية أنطوان دوانيل (جان بيار ليو) الذي أصبح لاحقاً “أناه الأخرى”. ويبرر أنطوان غيابه عن المدرسة باختلاق كذبة، قائلاً لأستاذه إن والدته توفيت، وتروفو كان عاش في طفولته قصصاً مشابهة إذ كان يهرب من المدرسة لمشاهدة الأفلام، ووجد ملجأ في المطالعة والسينما التي كان يدخلها خلسة، مرة من الباب الخلفي ومرة أخرى من النافذة. وطفولته التي كانت طفولة مهمشة وجدت في الصالات المظلمة ملاذاً آمناً، وأضاءت حياته لاحقاً على غرار بطله أنطوان دوانيل. ومنذ سن مبكرة أحب الأدب إلى حد الشغف وكان يلتهم روايات بالزاك كاتبه المفضل، وعندما تسنى له إنجاز “مجون الصبا” دس فيه بالزاك من خلال مشهد نرى فيه أنطوان يضيء شمعة على شرفه. وهربه من المدرسة مراراً وسرقته آلة كتابة قاداه إلى توقيف الشرطة إياه، فبقي سجيناً طوال يومين قبل إحالته على مركز لتأهيل القاصرين.
لا شيء خلال الأعوام الأولى من حياته كان يؤكد أنه سيصبح ذات يوم قامة سينمائية فرنسية، ولكن عندما أسس نادي “دائرة سينمان” في الحي اللاتيني (باريس) توطدت علاقته بالناقد أندره بازان الذي أخرجه من السجن وأعطاه فرصة الكتابة عن الأفلام في مجلته “عمل وثقافة”. و”دفاتر السينما” التي أصبح لاحقاً مع متمردي “الموجة الجديدة” أحد أهم أقلامها لم تكن وُلدت بعد. وطوال سنوات حياته التي أمضاها مخرجاً ومنظراً (أخرج 20 فيلماً روائياً طويلاً)، مبتعداً تدريجاً من السينما التي حمل رايتها في بداياته، وانشغل الرجل بسؤال أساسي: هل السينما أهم من الحياة؟ واعتبره الأميركيون أحد كبار الفن السابع، وأسند إليه ستيفن سبيلبرغ في فيلمه “لقاءات مقربة مع الجنس الثالث” دور العالم الفرنسي، من شدة إعجابه به. واليوم ما عاد من الممكن إحصاء التأثير المباشر وغير المباشر الذي تركه في معاصريه ومن جاء من بعده. سينمائيون مثل ريتشارد لينكلايتر ووس أندرسون يحلفون باسمه!
لكن، مهما جرى العمل على هدم الأصنام في السياسة والثقافة يبدو أن من الصعب التعرض لتروفو في كليته، فهو أكثر من مجرد فنان يمكن النيل منه بل جزء من الذاكرة الجمعية. فكلمة من هنا وتصرف غير لائق من هناك غير كافيين لإزاحته من عرشه. وقبل نحو 10 أعوام احتفلت السينماتيك الفرنسية به من خلال إقامة معرض كبير لم يسبق أن أقيم له مثله في العالم. ويومها كان الاحتفاء به يبدأ من المترو الباريسي، وفي الأروقة والأنفاق انتشرت ملصقات ضخمة وصور ومستندات ومقاطع أفلام وأوراق شخصية جمعتها السينماتيك من عائلة المخرج الراحل ومن خزانتها الخاصة. وعلى الملصقات الموزعة في أرجاء المدينة صورة لتروفو بالأبيض والأسود يؤطر فيها وجهه بتلك اليدين اللتين صنعتا بعضاً من أهم روائع السينما الفرنسية.
Independent News هوفيك حبشيان