لا أظن أن الشاعر كريم عبدالسلام قصد المعنى الوارد في الجزء الثاني من عنوان ديوانه “أكتب فلسطين متجاهلاً ما بعد الحداثة” (دار يسطرون). فهو وظف أبرز ما نادت به نظرية “ما بعد الحداثة”: التجريب، وإسقاط فكرة النوع الأدبي. وهذا ما نجده في الديوان الذي تصاحب متنه لوحات معبرة. فنجد المسيح مصلوباً، وهو يرمز – في حالتنا – إلى الفلسطيني المعاصر بكوفيته الشهيرة. ونجد خريطة فلسطين، ولوحات تصور ما لحق بغزة من دمار وقتل واستباحة، و”مفاتيح” العودة التي يتمسك بها الفلسطينيون تعبيراً عن أملهم في الرجوع لمنازلهم التي هجروا منها، وصوراً لهياكل عظمية متجاورة مع صورة “المقاوم” من “المسافة صفر”. هذا التضافر بين القصائد واللوحات يتوازى مع تضمين الديوان نصاً مسرحياً قصيراً بعنوان “زعماء يصنعون السلام”. وأخيراً يثبت الشاعر نص “اتفاقية لاهاي لسنة 1907” الخاصة باحترام قوانين الحرب البرية وأعرافها، وتعريف حركات المقاومة للاحتلال ومنها المقاومة الفلسطينية. وهكذا يمكن القول إننا لسنا أمام ديوان تقليدي يضم مجموعة من القصائد الغنائية تدور حول القضية الفلسطينية، بل أمام عمل مركب تتداخل فيه الأجناس الأدبية والفنية والوثائقية. والشاعر لا يخبط – بين هذه الأجناس – “خبط عشواء”، أو يبدو مثل “حاطب ليل” يجمع ما يتراءى له مصادفة، بل يقوم بتنظيم بناء الديوان في ما يشبه البنية السردية التي تقوم على التمهيد ثم المتن وأخيراً الخاتمة.
إن كتابة فلسطين أو أي قضية تحرر أخرى، بغض النظر عن دين أصحابها أو جنسياتهم، إنما هي تحرير للذات من العبودية والهوان، وهذا ما يفتتح به كريم عبدالسلام ديوانه حين يقول: “أكتب فلسطين، لأنضم إلى الشهداء في ملكوتهم، والضحايا في محارقهم واللاجئين في مخيماتهم، والمقصوفين في عراء الإنسانية”. في هذا الديوان وفي غيره من أعمال الشاعر كتابة وظيفية ذات رسالة، وهو هنا يؤكد: “أكتب فلسطين ضد الوحوش وفي مواجهة المجرمين/ ليت لي حيوات لأكتب وأكتب/ وأصواتاً لأردد دون توقف/ وأيدي كثيرة لأحمل البنادق”. وهذا على العكس من نصيحة ذلك الناقد التي يلقيها من شرفته في “الطابق العاشر”، كناية عن ترفعه عن الواقع، بينما يجلس الشاعر على الرصيف مراقباً من الناقد الذي يقول له: “اغسل يديك من أوحال السياسة لو سمحت/ وابتعد عن العشوائيات والباعة المتجولين في المترو”. والحقيقة أن شعر كريم عبدالسلام عموماً مغروز في “أوحال السياسة” ومهموم بأحوال سكان العشوائيات والباعة المتجولين. ويمكنني أن أذكر فقط بعض عناوين دواوينه السابقة الدالة على ذلك، مثل “فتاة وصبي في المدافن” و”كتاب الخبز” و”أنا جائع يا رب”. وهو ما يبعده – حقاً – عن “ما بعد الحداثة” التي تجعل عيني الشاعر – كما يريد ذلك الناقد المتعالي – لا تتعديان أوهامه الصغيرة، وخياله لا يتجاوز باب بيته بحيث لا يصطدم “بالقضايا الكبرى السابحة في الهواء/ أو القضايا الصغرى المرتبطة بالكبرى من خلال نفق سري”.
جوليات وداوود
في الجزء المعنون بـ”جوليات وداوود قبل المونتاج”، يتداخل الماضي والحاضر، لهذا نجد “داوود” رمزاً لبني إسرائيل، و”جوليات” رمزاً للمقاوم الفلسطيني… “يخرج متحدياً الفلسطينيين كل صباح ومساء، مدة 240 يوماً محتمياً بقصف الطائرات والمدافع والدبابات”. وفي مواجهة هذا كان “جوليات” الذي تفاخر بقوته وشجاعته، وحكى أنه كان يرعى – ذات يوم – غنم أبيه، فجاء أسد – مع دب – واختطف شاة من القطيع، لكنه استطاع اللحاق به وقتله، وبالمثل فعل ذلك مع الدب، ولن يكون هذا الإسرائيلي – يعني داوود – أقوى منهما، فلا بد من مواجهته، “لأنه والكتائب قتلوا أطفالنا ونساءنا وقصفوا النائمين العزل تحت سقوف بيوتهم، حتى اختلط الدم بالتراب والحجارة”. ومن المهم أن نشير إلى تجاور اللغة القديمة، مع العلامات الحديثة، فحين تقدم ذلك الإسرائيلي نحو “جوليات” كانت “الطائرات المسيرة تقصف الأرض أمامه، والمدافع تطلق والدبابات تمهد الميدان”. وعلى رغم هذه المعدات الحربية الحديثة، ينتصر “جوليات” بأدواته البسيطة، “شاهد جوليات داوود الإسرائيلي يهب متقدماً نحوه، فأسرع للقائه/ ومد يده إلى الجراب وتناول حجراً لوح به بمقلاعه ورماه، فأصاب جبهة الإسرائيلي/ غاص الحجر في جبهته/ وسقط داوود على وجهه إلى الأرض”. ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى توظيف الشاعر السرد وهو ما ينتظم الديوان كله.
ويعد الجزء المعنون بـ”فاء فلسطين” في أوله متن هذا الديوان، إذ يتكون من ستة مقاطع يأخذ كل مقطع حرفاً من حروف كلمة “فلسطين” – فبعد “فاء… فلسطين”، نجد ” لام، لأن المسافة صفر”، ثم “سين… السفاح المسكين”، يليه “طاء… طبعاً مع الوحوش أفضل جداً”، ثم “ياء… يا ليل القمر فلسطين”، وأخيراً “نون… نحيا”. وسوف نلاحظ كثرة الحيل الفنية التي وظفها الشاعر في هذا الجزء من الديوان، ومنها ذلك التناص البادي في قوله، “أليست هي تعب كلها، حسب الشعراء”، الذي يستدعي قول أبي العلاء المعري: “تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد”، وقول شاعرنا واصفاً الحياة: “أليست أهون من جناح بعوضة” الذي يتناص مع معنى الحديث الشريف الذي يؤكد أن الحياة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو أنها تساوي ذلك ما سقى الكافر منها شربة ماء. على أن أكثر الحيل فنية هي حيلة السخرية الكامنة في المفارقة بين الاسم والصفة: “السفاح المسكين/ ذهب للمحكمة: سيدي القاضي/ أنصفني منهم/ هؤلاء الموتى/ مهما قتلت منهم، يعودون للحياة”. وهنا تسقط ثنائية الموت والحياة، إذ لم يعد الموت يعني انعدام الحياة، فالشهداء لا يموتون بل يظلون يطاردون قاتليهم، حتى إن ذلك السفاح المسكين يقول: “عندما نقتل أحداً لا بد أن يموت/ عليه أن يموت/ ليس من المنطقي أن نطلق النار ثم نموت نحن من الغيظ/ هذا ليس عدلاً”. وفي موضع آخر يقوم بتشخيص “الموت” في صورة مفزعة، “علمنا من مصادرنا أنه – الموت طبعاً بعباءته السوداء ومنجله – يبحث بين كواكب المجرة عن منجل أكبر من أجل الحصد السريع”.
وفي موضع آخر يبدو التصوير فانتازياً على رغم أنه قد أصبح حقيقة على يد المقاوم الفلسطيني، حين يقول إن “جوليات”، “زحف حتى أصبح جوار داوود المضرج بدمه، ومن المسافة صفر وضع جوليات قنبلته اليدوية في فم داوود وقفز مبتعداً ليشهد انفجار جسده”. ويتجلى هذا الطابع الفانتازي بصورة أوضح حين يصور قدرة الفلسطينيين على امتلاك قوى سحرية تمكنهم من التحول إلى صخور على الشاطئ وعلامات على الجبال وأشجار زيتون في الوادي ورمال على شاطئ البحر الضاحك. إن كل ما سبق يبعد الديوان – كما أشرنا من قبل – عن بعض رؤى ما بعد الحداثة أو حتى الرومانسية الموروثة القاصرة على النظر إلى الداخل والغرق في هموم الذات والتوهمات التي لا مرجع لها في الواقع، طبقاً لنصيحة الناقد القاطن في الطابق العاشر.
Independent News