رجل وامرأة
ولئن كانت حال زينمان تذكرنا بحال مبدع أميركي آخر نطرح من حوله تساؤلات مشابهة وقد غمرتنا الدهشة، فإن المبدع هذه المرة مبدعة بالأحرى هي الكاتبة المسرحية والمناضلة السياسية ليليان هيلمان التي قد لا تذكر بدورها في زمننا هذا، إن ذكرت، بأكثر من كونها “المرأة التي قد تكون وراء ذلك الرجل العظيم” وتحديداً لكونها زوجة كاتب الروايات البوليسية الأميركي الأشهر داشيل هاميت في نسيان صارخ لكونها كاتبة من الطراز الأرفع ومناضلة سياسية جمعت الكتابة إلى النضال بشكل بالغ الجدية في أعمال مسرحية وسينمائية كبيرة لا دخل لزوجها أو يد فيها وجعلتها من ضحايا لجنة السيناتور ماكارثي – ريتشارد نيكسون الكئيبة بقدر ما كان هاميت بل أكثر بكثير. وإذا كان في مقدورنا أن نذكر من إنجازات هيلمان الكبرى فيلم “الذئاب الصغيرة” المأخوذ عن مسرحية قدمتها هي في برودواي فاعتبرت “ثورة سياسية اجتماعية في نعي الحلم الأميركي” في نيويورك، فإن في مقدورنا أن نعطي أمثلة على ما قلناه عن زينمان بعدد لا بأس به من أفلام اجتماعية كبيرة منها طبعاً “فوق حصان شاحب” الذي أعطى نجمنا العربي عمر الشريف واحداً من أدواره الهوليوودية الكبيرة في العام 1963. ولكن يمكننا أكثر من ذلك أن نتحدث عن أفلام أخرى لزينمان مثل “من هنا إلى الأبدية” (1953) التالي لـ”عز الظهيرة” (1952) وطبعاً “الصليب السابع” (1944) عن رواية الألمانية آنا سيغرز الشهيرة ثم بالتأكيد تحفته في مجال السينما التاريخية الضخمة “رجل لكل الفصول”. وتطول اللائحة ولكن يبقى سؤال: لماذا ترانا نذكر فرد زينمان وليليان هيلمان في سياق واحد؟
وصية فكرية مزدوجة
بالتحديد لأن ثمة فيلماً كبيراً، منسياً بدوره أي حاله كحالهما، كان بالنسبة إلى هذين المبدعين الكبيرين من آخر ما حققه كل منهما، هو كمخرج وهي ككاتبة. فهو من بعده لم يحقق سوى فيلم واحد سكت من بعده ليغيب في النسيان ولا سيما لدى الفرنسيين الذين، كالعادة لم يغفروا له تدخله في شؤون تاريخهم من خلال تحقيقه “الأخرق” في رأيهم، لفيلم “ابن آوى” عن اغتيال الرئيس شارل ديغول (ولنتذكر هنا كيف حطموا قبل شهور من الآن فيلم ردلي سكوت عن نابوليون لمجرد أنه تدخل سينمائي إنجليزي غير مرغوب في شؤون تاريخهم!). غير أن هذا كله ليس موضوعنا هنا. بل موضوعنا فحواه الإجابة عن السؤال الذي طرحناه أعلاه وهي أن فرد زينمان حقق في عام 1977 واحداً من تلك الأفلام التي يمكن النظر إليها بوصفها وصية فكرية، إن لم يكن فنية لمبدع كبير. وهو حققه عن نص من كتابة ليليان هيلمان مستخلص من سيرتها الذاتية يمكن اعتباره بالنسبة إليها هي الأخرى وصية فكرية بل أكثر من ذلك، حيث أن الدور الذي تلعبه الكبيرة فانيسا ريدغريف في الفيلم إنما كان دور… ليليان هيلمان نفسها. وبالتالي فإن الحدث المروي في فيلم “جوليا” حدث حقيقي تستذكر فيه الكاتبة لقاءها الذي لا ينسى مع “رفيقة” ألمانية لها التقتها في برلين ذات يوم من أحد أعوام الثلاثينيات، فكان اللقاء بالنسبة إليها علامة على نضال مشترك سياسي ونسوي قد يكون النضال المشترك ضد النازيين علامته في ذلك الحين، لكنه حين عرض الفيلم في عام 1977 كان تعبيراً عن تلك المرحلة النضالية الكبيرة التي تلت نضالات الشبيبة الأوروبية والعالمية التي سادت في آخر العقد السابق في المجالين اللذين نعنيهما هنا: النضال السياسي ولا سيما ضد الشموليات ككل، والنضال النسوي في عالم يسوده قانون الذكور. وبالتالي عالم يشهد تلك الاندفاعة الكبرى وقد انتقلت من عتمة المرحلة النازية إلى ربيع المرحلة التي، وكما نعرف اليوم، سبقت انتكاسة الأفكار الكبرى.
سينما تتوقع الكارثة
ومهما يكن من أمر قد يكون في إمكاننا القول الآن بأن فيلم “جوليا” نفسه، ومن دون أن يكون عملاً سينمائياً فنياً كبيراً على أية حال، إنما كان بشحوب موضوعه وبؤس نهايته بل حتى في تعمده أن يقدم عن برلين صورة تتنافى مع الواقع – كما اتهم في ذلك الحين -، إنما كان يتنبأ بما ستكون عليه أحوال العالم وأحوال النضالات التقدمية خلال المراحل المقبلة. غير أن هذا، بدوره ليس موضوعنا هنا. موضوعنا هو ذلك الفيلم الذي لا بد على رغم كل شيء انتزاعه من النسيان ولو من أجل الأداء الفني الرائع الذي قدمته فيه فنانتان كبيرتان عرفتا في تلك الآونة بكون كل منهما مناضلة تستخدم فنها سلاحاً في نضالها ولو على طريقتها التي جعلت من أولاهما، فانيسا ردغريف فنانة مميزة وسياسية رائعة تقف إلى جانب الفلسطينيين باذلة فنها ووقتها في سبيل قضيتهم، ومن الثانية، جين فوندا، في دور “جوليا” تحديداً، واحدة من كبيرات نجمات هوليوود والمدافعات عن قضايا النساء. فما الذي يحكيه لنا فيلم “جوليا”؟ حكاية عاشتها ليليان نفسها في سنوات الثلاثين تلعب هي فيها دوراً أساسياً لكن بطولتها لجوليا. إذ ذات يوم يدنو من ليليان فيما تكون في باريس مع زوجها الكاتب الكبير هاميت (يلعب الدور جازون روبارد) رجل يعرف نفسه باسم يوهان ويسألها عما إذا كانت مستعدة للقيام بمهمة إنسانية نضالية فحواها نقل مبلغ من المال إلى برلين وتسليمه هناك إلى مناضلة مكافحة ضد النازية تدعى جوليا. وتقبل ليليان كعادتها في ذلك الحين القيام بالمهمة على رغم تنبيه هاميت لها من كونها بالتأكيد مهمة محفوفة بالأخطار وتقتضي عبوراً غير مأمون لأوروبا التي تموج بتوقعات الحرب والقتل بالدمار. ليليان وكما يخبرنا الفيلم نقلاً عن سيرتها الذاتية لا تبالي بذلك بل تقوم بالرحلة التي تستغرق نحو ثلث زمن الفيلم وتتمكن من عبور عشرات الأفخاخ لتصل في النهاية إلى برلين وتلتقي جوليا لتجدها وقد بتر أحد أطرافها بفعل جروح خطيرة أصيبت بها خلال نضالاتها ومشاركتها في تظاهرة ضد النازية المسيطرة على الحكم هناك.
بداية صداقة عميقة
المهم تنجز ليليان مهمتها وتسلم الأمانة إلى جوليا بعد أن تأثرت بشخصيتها وبحكايتها، وبخاصة بتصميمها على مواصلة النضال على رغم كل ما أصابها. وبعد حين سيصل إلى علم الكاتبة أن جوليا قد فارقت الحياة وهي أيضاً هذه المرة في غمرة نضالها… ولكن بعد أن أطلقت على ابنة أنجبتها خلال ذلك اسم… ليليان. وطبعاً يمكننا أن نلاحظ هنا أن فيلم “جوليا” حتى وإن كان قد حقق نجاحاً كبيراً في عام ظهوره 1977، لم ينل إعجاباً عاماً لكنه مع ذلك أعاد إلى واجهة الأحداث السينمائية ذلك المخرج الذي كانت أمجاده في مضمار هذا الإبداع منسية منذ “رجل لكل الفصول” (1966)، لكنه أعاد إلى الصدارة في الوقت نفسه مفهوم النضال النسائي والصداقة العميقة التي تشكل موضوعه الأساسي، ناهيك بكونه قد ذكر أيضاً من خلال عودة ليليان هيلمان للبروز ككاتبة ولكن أيضاً كشخصية محورية في الفيلم، بأنه لئن كان ثمة وراء كل رجل عظيم إمرأة يحدث كثيراً أن تكون هذه المرأة أعظم منه. وربما ذلكم هو الدرس الكبير الذي يختم عليه الفيلم!
Independent News