كيف تختار المكان الذي ستذهب إليه لتناول الطعام؟ هل تحدد اختيارك بحسب الموقع أو قائمة الطعام أو الموازنة؟ أم أن العامل الحاسم هو مدى جمال المكان لمشاركة صوره عبر “إنستغرام“؟ تغيرت معايير اختيار المطعم في عالمنا المهووس بالصور اليوم، إذ أصبح المنظر الداخلي للمكان بنفس أهمية الطعام نفسه، ويتنافس مصممو المطاعم لخلق “التصميم” الشهير التالي.
بدأ هذا الشرط لوجود مساحة مثالية للصور بالارتفاع خلال العقد الأول من القرن الـ21 مع انطلاق منصة “إنستغرام”، شبكة التواصل الاجتماعي المجانية المخصصة لمشاركة الصور ومقاطع الفيديو، والتي كانت متاحة في البداية لمستخدمي آيفون فحسب. استفاد التطبيق من مفهوم “العين تأكل قبل الفم”، إذ كانت صور الطعام الجميلة تحظى بشعبية كبيرة منذ البداية. وفي الوقت نفسه، كانت فكرة “مقهى الهيبستر” الذي يمكن التقاط صور جميلة له حصيلة للصعود القوي للتطبيق، مساحة بسيطة وشبه صناعية مفروشة بمصابيح معلقة وطوب مكشوف ونباتات منزلية. ويمكن العثور على هذا النمط العصري في جميع أنحاء العالم، من كيب تاون في جنوب أفريقيا وصولاً إلى ملبورن في أستراليا. ثم جاءت فكرة “جدار ’إنستغرام‘” – سواء كان شعاراً بضوء النيون أو جناحين كبيرين – والذي يتم تصميمه خصيصاً لالتقاط الصور أمامه ونشرها على “إنستغرام”.
ووصولاً إلى عام 2024، إذ صار هناك تحول في كيفية تصميم المطاعم والمساحات. وبحسب ميلاني لياو إحدى مؤسسي مكتب التصميم الداخلي “دويل” Duelle. وتشرح بالقول “في الماضي، كان التركيز على إنشاء أماكن محددة لصور “إنستغرام” (مثل لافتات النيون أو الخلفيات العصرية)، ولكن الآن أصبح النهج أوسع. ويفكر المصممون في كيفية ظهور المساحة بالكامل من خلال عدسة الكاميرا لأي شخص يشاركها عبر الإنترنت وليس فقط لأولئك الموجودين فعلياً. لذا بدلاً من تنظيم فرص التصوير الفردية فإنهم يصممون مساحات تبدو جميلة ومتماسكة من جميع الزوايا، ويتوقعون أن يراها جمهور عالمي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي”.
وبحسب لياو فإن الفكرة السابقة عن زاوية بتصميم مخصص من أجل التقاط الصور ومشاركتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحررت من قيودها لتشمل المطعم بأكمله. وتقول “عند تصميم مكان، فأنت تعلم أنه سيتم التقاط عديد من الصور ومقاطع فيديو فيه. كيف سيظهر من جميع الزوايا؟ عليك التأكد من أن كل شيء ملائم. أعتقد أن هذا مهم، تريد أن يكون كل شيء جديراً بالتصوير”.
أدى اعتماد أصحاب المطاعم على الجماليات المناسبة لـ”إنستغرام” إضافة إلى تعودنا على مشاركة حياتنا اليومية عبر الإنترنت إلى تصميم المطاعم لتقديم تجربة مميزة، والتي وصفها إد بلامب مؤسس مكتب التصميم “ستوديو فاوند” Studio Found أنها “بالتأكيد الصيحة الحالية”، مضيفاً اعتقاده بأنها “ستستمر”. وأوضح بلامب أن “هذا الأمر كان دوماً موجوداً لكنه أصبح أكثر شيوعاً الآن. وأصبح رواد المطاعم أكثر انتقائية الآن مقارنة بما كانوا عليه من قبل، فمع الارتفاع الكبير بكلفة الخروج يرغب الناس في الشعور بأن الأمر مبرر”.
وتعد مجموعة المطاعم “بيغ ماما” Big Mamma التي تحظى بشهرة كبيرة واحدة من أوائل الذين تبنوا هذه الصيحة في مجال المطاعم. وتتخصص المجموعة بتقديم الطعام الفاخر بأسعار معقولة في حين تعد تصاميمها الفخمة المستوحاة من إيطاليا عامل الجذب الأكبر، ومن ضمنها مطعم “غلوريا” في منطقة شورديتش في شرق لندن والمصمم على طراز منطقة كابري الإيطالية خلال السبعينيات، ومطعم “جاكوزي” في غرب لندن والممتد على طول أربعة طوابق ومجهز بتماثيل رومانية وزجاج مورانو. وبعد افتتاح أول فرع لمجموعة “بيغ ماما” في لندن خلال عام 2019 افتتحت أربعة مطاعم أخرى في جميع أنحاء العاصمة، مع مخطط لافتتاح مطعم جديد في مدينة مانشستر. وتقول لياو في تعليق عن أعمال المجموعة ” تقدم هذه الأماكن تجربة التكلف والمبالغة، ستشعر بالتميز، ولكن بأسعار معقولة. إنه مكان تأخذ الآخرين إليه لتقول “نحن نعيش في لندن، ويمكننا ببساطة القدوم إلى هنا”.
من جهتها، تزعم المديرة الإدارية لشركة التصميم الداخلي “جوجو برادلي” ومقرها تشيشير [في شمال غربي إنجلترا] توري كوتس أن تصميم المطاعم أصبح أكثر أهمية بعد الجائحة. وتشرح كوتس “تحظى المشاريع التجارية بمزيد من التمويل الآن. ويعيد العملاء استثمار مزيد من الأموال. وكانت هناك لحظة توقف فيها العالم وتوقفنا جميعاً عن الخروج لتناول الوجبات، وعندما بدأنا في الخروج مرة أخرى كانت هناك منافسة بين الأماكن التي يمكننا الذهاب إليها، والتي يجب أن تكون أفضل من منازلنا”. وفي الوقت نفسه، أصبح نمط الألوان الباهتة والتعمد في كشف البنية التحتية الخام للمكان من توقيعات العقد 2010 شيئاً من الماضي، واستبدل برغبة في الفخامة واللمعان. وتقول لياو “يبحث الناس عن القليل من الهرب والشعور بالرهبة. جمع تصميمنا الجديد لمقهى ’باتيول‘ في ’سومرست هاوس‘ [في لندن] اللون الأصفر الفاتح مع الأزرق المخضر والزهري الهادئ. هناك شيء رومانسي بعض الشيء ومبالغ فيه في مجموعة الألوان، يمكن للناس أن يشعروا بفرحة المكان حقاً حتى من خلال الصور”.
كذلك يبحث رواد المطاعم عن الراحة والشعور بالانسجام. على سبيل المثال، مطعم وبار “ذا ليتل فيوليت دوور” [الباب الأرجواني الصغير] The Little Violet Door في منطقة سوهو في لندن، يحاكي مظهر الحفلة المنزلية. هناك أيضاً طفرة في المناسبات التنافسية، إذ يتم تقديم الألعاب مثل لعبة رمي السهام في المكان المخصص للعب موسيقى الجاز إلى جانب تقديم الطعام والشراب. ويقول بلامب “كنت أتحدث إلى أحد المستثمرين، وقال إن الأمر مربح من جميع الجوانب. إنه طريقة سهلة لتغيير المكان والناس يشربون كل الوقت”. تزعم مؤسسة وكالة التصميم الداخلي “نانو غروب” في ليدز إيلين برايس أن ثقافة المؤثرينفي وسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير ملموس في تصميماتها. وقالت “يحضر كثير من عملائنا مقاطع فيديو لمؤثرين في بالي أو ميامي، في حين أنهم ربما لم يكونوا قد شاهدوا ذلك من قبل”. وتشمل مشاريع برايس الأخيرة مطعماً مستوحى من مدينة نيويورك، ونادياً خاصاً باريسياً ومطعماً مكسيكياً. وتضيف بالقول “لقد تفتحت أعين عملائنا على التصاميم المبتكرة، وذلك بسبب التأثير الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي”.
ولكن كيف يمكن للمصممين تحقيق التوازن بين إنشاء أماكن تتبع الصيحات لجذب العملاء مع إمكانية الاستمرار لوقت أطول من صيحات وسائل التواصل الاجتماعي المتغيرة؟ يقول بلامب “’إنستغرام‘ لا يساعدنا كثيراً من ناحية زيادة أعمالنا. إنه في الأساس نسخ لأشخاص آخرين وتكرار شيء موجود. في بعض الأحيان يتعين علينا القيام بأشياء نتيجة الصيحات إذا أراد العميل ذلك، لكننا نميل إلى إبعادهم قليلاً من ذلك”. ما تعترض عليه لياو هو عندما يتم تقديم الأولية لإمكانية مشاركة المطعم [عبر وسائل التواصل الاجتماعي] فوق الناحية العملية “أنا فعلاً أهتم بالتجربة والجانب العملي، ولا أتنازل عنهما من أجل المحتوى المثير للاهتمام. هناك شيء مقلق في شأن إعطاء الأولوية للخوارزمية [للانتشار على وسائل التواصل]، لأنها دائماً ما تكون عابرة”. لاحظت برايس زيادة في “الأماكن المتبدلة – المطاعم التي تتحول إلى نواد ليلية – حيث لن تجد مكاناً مخصصاً للدي جي فحسب، بل ستجد أيضاً موسيقيين وفرق جاز وألعاباً بهلوانية. وتقول “نتلقى كثيراً من الطلبات لذلك من عملائنا، أكثر من أي وقت مضى”.
“ميسترس أوف مايفير” أحد مشاريع برايس الأخيرة، هو مطعم في منطقة مايفير في لندن على الطراز الباريسي ويتحول إلى صالة ليلية بعد أوقات الطعام. يذكرنا المكان بصالونات عشرينيات القرن الـ20، مع مقاعد من جلد الشامواه الأحمر وستائر مخملية فخمة وكراس مزينة بأهداب ذهبية. وبحسب برايس “الطعام فرنسي ومقدم بصورة استثنائية، ولكن بعد ذلك يتحول إلى مكان للشرب والرقص على الطاولة”.
فكرة دمج الطعام مع الترفيه كثيراً ما ظهرت واختفت مراراً عبر تاريخ الطهي، ولكن لماذا عادت الآن إلى الانتشار، خلال وقت انخفضت فيه قدرة العملاء على الإنفاق؟ أولاً، يأمل أصحاب المطاعم في جعل عملائهم يبقون لفترة أطول، ولكن برايس تعتقد أن السبب يرجع أيضاً إلى معيار جديد لمعنى “الخروج”. وتقول “توقعات الجميع مرتفعة للغاية الآن. وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في ذلك. ويتوقع الناس أن يكون الأثاث رائعاً وأن يكون القماش مختلفاً، فهم يريدون مكاناً مسلياً”. من جهة أخرى تقول لياو “أعتقد أن الاضطرار للخروج ودفع المال يزعج الناس فعلاً في الوقت الحاضر. لقد حصلنا على كثير من الراحة عندما كنا في المنزل لبضعة أعوام خلال جائحة كورونا. أعتقد أنه عندما يخرج الناس، فإنهم يريدون التأكد من خوضهم تجربة مميزة”.
تماماً مثل عالم الموضة، فإن مجال التصميم الداخلي في حال من الدوران، ومع الوتيرة السريعة للعالم الرقمي يمكن أن تنتهي الصيحات قبل أن تترك بصمتها. إذاً، ما طبيعة الأماكن التي يمكننا أن نتوقع تناول الطعام فيها في المستقبل؟ يقول بلامب “أشعر وكأننا بدأنا نرى نهاية الأسلوب المبالغ به. ستستمر الأماكن الراقية ذات الموازنات الكبيرة بذلك، فهي قادرة على تحمل الكلفة، فالتصميم بهذه الطريقة مكلف. لذلك إذا زرت الأماكن التي فعلت ذلك بموازنة محدودة ترى أنها قد تبدو جيدة في الصورة، ولكن عندما تكون هناك فإنها لا ترقى إلى مستوى التوقعات ولا تبدو جيدة فعلاً”. لاحظ بلامب أن الاندفاع نحو تصميم أماكن عالية التصميم مستوحاة من إيطاليا بدأ يتباطأ، مع العودة التدريجية إلى الصورة الأكثر بساطة. ويقول “إنه بسيط، ولكنه نفذ بصورة جيدة فهو ليس عبارة عن مفارش طاولات بيضاء وغرفة بيضاء، ولكن مواد جميلة ومجموعة ألوان تحوي ثلاث إلى خمس مواد مختلفة فقط تكمل بعضها بعضاً”.
يبدو أن المبالغة أصبحت خارج الموضة، والبساطة هي السائدة. ولكن أياً كانت الجمالية الرائجة، فمن المرجح أن نساوي بين الأسلوب والجوهر [الطعام] عند اختيار وجبتنا التالية في المستقبل المنظور.
© The Independent