لا حرب شاملة، كما أكد التصعيد الخطر الأخير الذي دام ساعات، والسبب هو الحسابات الجيوسياسية لدى الأطراف القوية، مجرد استمرار لأعمال قتالية تحت سقف الحرب الشاملة، ومهما يكن فإن لبنان في مأزق أخطر من أي حرب، مأزق العجز من جهة عن مواجهة الخطر على وجود البلد، والاستقواء من جهة أخرى على البلد في إطار مشروع إقليمي يتوسع من دون أي ضمان لنجاحه في النهاية، حيث مصالح اللاعبين الآخرين تحد من توسعه.
ومن مظاهر المأزق أن لبنان بلا رئيس جمهورية منذ الـ 31 من أكتوبر (تشرين الأول) 2022، والجمهورية بلا سيادة منذ “اتفاق القاهرة” الذي وقعه قائد الجيش اللبناني مع زعيم حركة “فتح” ياسر عرفات عام 1969 وما تلاه من تدفق فلسطيني مسلح وإجتياح إسرائيلي ودخول عسكري سوري وصراع أميركي – سوفياتي.
سفينة بلا قبطان في بحر هائج، وقراصنة يستولون على السفينة مطمئنين إلى أن أية جهة لن تتصدى لهم، وسط أخطار الاصطدام بالصخور، وليس هذا المشهد سوى بداية لمشاهد أصعب وأخطر. ذلك أن لبنان فقد ميزة الانتخابات الرئاسية لجهة التنافس الديمقراطي بين المرشحين منذ الوصاية السورية بعد “اتفاق الطائف” والتي قامت بانقلاب على الاتفاق نصاً وروحاً، وما صار القاعدة هو أن تقرر دمشق من تختاره لرئاسة لبنان بحيث يتم فرض مرشح وحيد من فوق، والتصويت له تحت عنوان التفاهم من تحت، أما مع الوصاية الإيرانية التي ورثت الوصاية السورية فإن الشغور الرئاسي أصبح يسبق التصويت لمرشح مفروض لكنه مرفوض.
شغور امتد لأشهر بعدما انتهت ولاية الرئيس إميل لحود وحدثت فوضى وجرى احتلال وسط بيروت من جانب فريق الممانعة قبل التوصل في مؤتمر الدوحة في قطر إلى اتفاق ينسف الباقي من اتفاق الطائف، ويفتح طريق القصر الجمهوري أمام قائد الجيش العماد ميشال سليمان، ثم شغور امتد لعامين ونصف العام قبل ضمان الرئاسة لزعيم “التيار الوطني الحر” حليف “حزب الله” العماد ميشال عون، ولا أحد يعرف إلى أي مدى يمتد الشغور الحالي بعد ولاية عون.
لكن الشغور الرئاسي ليس مجرد خلو القصر الجمهوري من رئيس هو حسب الدستور”رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن”، فهو هدف في لعبة كبيرة معقدة، لا حادثة على الطريق، وسيلة من أجل غاية هي القبض على الرئاسة والجمهورية في المرحلة الحالية.
من يقرر عن لبنان اليوم ويفاوض باسمه هو “الثنائي الشيعي”، ومن يخوض حرب إسناد لحركة “حماس”في حرب غزة هو “حزب الله” الذي يريد أن تكون له حرية الحركة والتهديد بالاستعداد لحرب شاملة من دون أن يكون في القصر الجمهوري رئيس ولو كان من حلفائه، لأن أي رئيس لا بد له من أن يرفع الصوت أحياناً، فضلاً عن أن القوى الإقليمية والدولية التي تعمل للحؤول دون الحرب الشاملة تريد عنواناً رسمياً تخاطبه من المفترض أن يكون رئيس الجمهورية.
وأيضاً الشغور الرئاسي يتمدد مع الوقت إلى تحت عبر الشغور في المراكز الأساس للسلطة والإدارة، ويؤدي إلى تآكل الجمهورية وانحلال المؤسسات. والكل يتصرف على أساس أن ملء الشغور الرئاسي مرتبط بإنهاء الحرب على غزة، مع أن “حزب الله” يكرر القول إنه لا ربط بين الأمرين، وكل هذا كلام، فالخلاف على الرئاسة والذي قاد إلى الشغور سبق حرب غزة، والانقسام الوطني والسياسي العميق حالياً هو نفسه الانقسام الذي كان قبل حرب غزة.
لا المبادرات المحلية وصلت إلى مكان، ولا المبادرات الخارجية، ولا سيما عبر حراك “الخماسية” العربية والدولية التي تضم أميركا وفرنسا ومصر والسعودية وقطر، أدت إلى انتخاب رئيس. وليس انتظار الانتخابات الرئاسية في أميركا على أمل الإفراج عن الانتخابات الرئاسية في لبنان سوى رهان على الوهم بعد رهانات على تطورات وأمور أخرى في المنطقة والعالم، أكدت أنه لا حدود للأوهام والأحلام في الوطن الصغير.
الواقع أن اللعبة الرئاسية تتجاوز خلاف المقاربات بين من يطالب بتطبيق الدستور ومن يصر على حوار برئاسة رئيس المجلس النيابي، وهو طرف، قبل الدخول إلى جلسة انتخاب بدورات عدة، أولاً لأن الدستور معلق وثانياً لأن فتح الجبهة الجنوبية لحرب الإسناد يتجاوز تعليق الدستور، ولا شيء يتحرك في المؤسسات ويحركها من دون العودة للدستور.
ولا أحد يجهل “فانتازيا”الحديث عن الدستور حين يصبح الوطن اللبناني “ساحة”، فلا مجال لبناء دولة في ساحة، وإن كانت دولة حرب، ولا عمل في الساحة إلا للتخلص من الدولة، ومتى؟ حين صار لبنان “الساحة” جزءاً من “وحدة الساحات” ضمن “محور المقاومة” بقيادة إيران. ومن هنا الاندفاع في تعميق المأزق بدل العمل للخروج منه، فلا انتخابات رئاسية قبل أن تتبلور عملياً أجوبة عن أسئلة أبرزها اثنان أولهما رئاسة لأي جمهورية في لبنان، وثانيهما جمهورية لأي لبنان في المنطقة.
والبارز حيال التطورات رهانان، رهان “محور المقاومة” على صفقة إقليمية – دولية بعد حرب غزة وما فعلته “وحدة الساحات”، صفقة تطلق يد الجمهورية الإسلامية في العالم العربي وتجعل الميليشيات التي سلحتها ودفعتها إلى حرب بالوكالة عنها أقدر على تولي السلطة أو التأثير فيها ضمن بلدانها.
والثاني رهان “محور السيادة” على يقظة لبنانية وقوة عربية ومصالح دولية تحول دون مكاسب جيوسياسية غير عادية على حساب أمور ثلاثة، أولها هوية لبنان ودوره الذي اختصره الفاتيكان بالتركيز على “الوطن – الرسالة”، وثانيها الدور العربي الذي لا استقرار في المنطقة من دون أن تكون الأكثرية العربية لاعباً قوياً وسط اللاعبين الإيراني والتركي والإسرائيلي، وثالثها الدور الدولي التقليدي بالنسبة إلى أميركا وأوروبا وروسيا والمستجد بالنسبة إلى الصين، لكن الأحداث والتطورات لا تزال شديدة السيولة، ومستقبل المنطقة ليس رهينة طرف واحد.
Independent News