الرئيسية / كلمة العدد /
الغربة (٥٩)
روبرت و روبرت والإعلامُ المسيَّس!
مودي حكيم
مودي حكيم

الغربة (٥٩)
روبرت و روبرت والإعلامُ المسيَّس!

 

يؤثر رجال الإعلام وبشكل فاعل في الحراك السياسي والإجتماعي وحتى الإقتصادي، من خلال مايصنعوه من مواد إعلامية. فالتعامل مع الأحداث والأخبار كبضاعة يصار إلى تسييسها وتسويقها بشكل مؤثر ومربح في آن واحد، مهما كان الثمن الأخلاقي، هو ما يفعله الإعلاميون في كثير من المواقف، مما يظهر أن الأخلاق والمبادئ والمثل التي يتحدثون عنها خلال حياتهم العملية كانت حبراً على ورق، ولا تتعدى كونها سلاحًا يواجهون به خصومهم.

خلال ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي كان يتحكم فى الإعلام الإنجليزي عملاقان جمعهما الإسم الأول “روبرت”، روبرت مردوخ وروبرت ماكسويل. أنشأ مردوخ أقوى إمبراطوريات العالم الإعلامية، إمبراطورية تتسع بشكل دائم مؤمنة له موطئ قدم إعلامي وثقافي في كل بقعة من بقاع الأرض. وفي خضم متابعته لدعم شركته العالمية يتجه مردوخ فى السنوات الأخيرة إلى السيطرة على الإعلام الصيني وإقتحام سوره التجاري، إذ يملك قناة Phoenix الناطقة بالصينية والتي إنتقدت حلف شمال الأطلسي بلا هوادة بعد قصف طائراته لمقر السفارة الصينية في بلجراد أثناء التدخل العسكري في إقليم كوسوفو، وذلك إرضاء للسلطات الصينية وحفاظا على مصالحه، حتى إن السفارة البريطانية في بكين أرسلت مذكرة إلى الخارجية البريطانية إحتجاجا على تغطية الصحف التي يملكها مردوخ للحدث. كما أمر بمنع نشر كتاب “الغرب والشرق” الذي ينتقد السياسة الشيوعية في الصين من ذات المنطلق، دون الإلتفات إلى “حرية الرأي والفكر”.

إن مردوخ يتعامل مع الأحداث والأخبار كبضاعة يصار إلى تسييسها وتسويقها بشكل مؤثر ومربح في آن واحد، مهما كان الثمن الأخلاقي، وهو ما إستخدمه في كثير من المواقف، مما يظهر أن الأخلاق، المبادئ والمثل التي نادى بها في مطلع حياته العملية كانت حبرا على ورق، ولا تتعدى كونها سلاحًا واجه به خصومه، ثم أولاها ظهره بعد أن قويت شوكته. ولو وجدت دراسة لتصنيف أقوياء العالم في هذا المجال فلا شك أن مردوخ سيكون من بين الواقفين على منصة التتويج. فمنذ ثمانينات القرن الماضي، وباستثناء الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، لم ينجح أي مرشح إلى رئاسة في أمريكا أو لرئاسة مجلس وزراء في بريطانيا، إلا إذا كان مدعوماً من قبل مردوخ، وبالتالي مؤسساته الإعلامية المسيطرة على ٤٠% من الصحافة البريطانية.

أما روبرت ماكسويل الناشر ورجل الأعمال، وعضو البرلمان ورئيس مجلس إدارة أكسفورد الذي بني واحدة من أكبر إمبراطوريات النشر فى العالم، وصاحب صحيفة “الديلي ميرور”، و”الديلي نيوز” الصادرة فى مدينة نيويورك، المهووس غير الطبيعي بمنافسه اللدود وغريمه الأول روبرت مردوخ صاحب مجموعة التايمز العريقة، و” ذا صن” الأولى فى مبيعات صحف حجم التابلويد فى بريطانيا، و”نيويورك  بوست”، و”وول ستريت جورنال”. هوس ماكسويل بملاحقة مردوخ كان خلف جميع قراراته المهنية الكبري. ماكسويل إمتلك منذ ظهوره عام ١٩٨١ شركته الإعلامية “ماكسويل كوميونيكيشن كوربوريشن”

وكان ماكسويل قد فشل مرتين أمام روبرت مردوخ في السيطرة على الصحف المحلية حيث نجح الأخير في السيطرة على الصن ونيوز أوف ذي وورلد. وأخيرا حصل ماكسويل على فرصته ونجح في شراء مجموعة ميرور عام ١٩٨٤، ثم قام بشراء مجموعة ماكميلان الأمريكية ولكن ذلك أوقعه في دوامة الديون أكثر فأكثر.

***

هكذا كانت صحافة الغرب وهكذا كانت صحافتنا العربية، وكلاهما تحكمه السياسة والصراعات. وباستثناء القليل من الصحف والمطبوعات العربية فى المهجر، فقد سعت حكومات وأنظمة عربية لإحتواء “النخب العربية”، وهو سعي قديم بعض الشيء، ويعود لزمن “الحرب الباردة” بين المراكز والعواصم العربية..بغداد زمن صدام حسين، وليبيا زمن معمر القذافي. جيوش من الكتاب والإعلاميين العرب إنخرطوا في الحروب والمعارك الإعلامية لتلك الأنظمة، من خلال عشرات الصحف والمجلات والمحطات الممولة منها على نحو مباشر أو غير مباشر. وما أثير من لغط حول قضية تمويل الصحف المهاجرة ، ليس من دول فقط بل أيضا من أثرياء عرب، البعض منها حقيقي والآخر قد يكون مدسوسًا على أصحابها لكني أشير اليها، فقد نشر البعض وثائق خطية تدين عددا من الكتاب والصحفيين المقيمين في أوروبا ممن كانوا لا يكتفون بالقبض من الأمير تركي والشيخ الفاسي، بل ويبعثون برسائل إستجداء وتسوّل مخجلة لهذا وذاك من أجل الحصول على المال. ومن بين هذه الوثائق رسالة بخط غسان زكريا رئيس تحرير مجلة سوراقيا موجهة الى الأمير تركي ورسالة بخط محمد الهوني صاحب جريدة العرب موجهة الى الشيخ الفاسي ورسالة بخط عبد الحفيظ محمد صاحب جريدة أخبار الاسبوع الأردنية موجهة الى الشيخ الفاسي الذين يتسولون في أوساط الصحفيين فيسددون الفواتير في صورة مقالات مدح تنشر في صحفهم ومجلاتهم.

بعد توقف جريدة القبس عام ١٩٩٠ عن الصدور بسبب الغزو العراقي لدولة الكويت، عادت في عام ١٩٩١ هذه الجريدة إلى الصدور مرة أخرى بعد تحرير دولة الكويت. وتوالت الاصدارات: مجلة الوسط، مجلة لبنانية رأس تحريرها الصحفي اللبناني عبد الكريم أبو النصر، وأعاد عبد العظيم مناف إصدار صحيفته “صوت العرب” بلندن بعد أن أغلقت لمهاجمتها الأسرة الحاكمة فى السعودية. فى نفس الفترة هاجرت الصحافة السعودية باحثة عن أجواء سياسية مناسبة للعمل أو نشر وجهة نظر معينة بعيدًا عن الرقابة ممثلة فى الناشرين هشام و محمد على حافظ وشركتهم “السعودية للأبحاث والتسويق”. وإستأنفت جريدة الحياة الصدور من جديد بعد غيبة منذ أقفلت أبوابها عام ١٩٧٩ بعد عام من إندلاع الحرب الأهلية فى لبنان، وعادت للحياة عام ١٩٨٨ من لندن بتمويل من الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز وإعتمدت على لجنة متميزة تضم خيرة الصحفيين اللبنانيين يزيد عددهم على مائة صحفي، وتولي إدارتها جميل كامل مروة نجل مؤسسها. وتعاقب على رئاسة تحريرها ثلاثة من كبار الصحفيين أولهم جهاد الخازن ثم جورج سمعان أعقبه غسان شربل الذي عمل لسنوات طويلة في الصحيفة.

بعض من الصحف المهاجرة لم تحقق كل المأمول مع تقاليد العلاقة بين السلطة السياسية ووسائل الإعلام، وأغلقت أبوابها للعجز فى التمويل والإفلاس، أو لوفاة أصحابها. في عام ١٩٨٩ تم تأسيس جريدة القدس العربي في لندن والتى تولي عبد الباري عطوان رئاسة تحريرها، بدعم من منظمة التحرير الفلسطينية. وخلال الغزوات الأمريكية للمنطقة، اتُّهم بأنّه حصل على دعم مباشر من الرئيس العراقي صدام حسين، ثم كانت علاقته مع زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن عنواناً جديداً في حياته المهنية وفي موقع صحيفته التي ظلت دوماً من المنابر الأكثر إنتشاراً على الشبكة العنكبوتية.

***

تَبَقَّ فى جعبتي بعد توقف الثورة العراقية والقبس الكويتية، ومجلتي الحوادث والتضامن، تبقَّت مجلة الصياد، و جريدة Morning Advertiser  فى عجلة الانتاج، الصحيفة التى كانت تطبع  ٣٢٥٠٠ نسخة، وهي من أقدم الصحف التى إنطلقت لأول مرة عام ١٧٩٤ من قبل جمعية تحمل نفس الإسم. وفى عام ١٨٥٨ أصبحت الصحيفة أول صحيفة تشترك في خدمة أخبار رويترز. كانت الجريدة مكرسة للمصالح التجارية، وليس لدعم حزب سياسي، ومع ذلك رعاها المجتمع البريطاني. وكانت فى منتصف القرن التاسع عشر فى المرتبة الثانية بعد صحيفة التايمز. كان الكاتب تشارلز ديكنز مساهمًا مبكرًا وصحفيًا فيها ومذيعًا ومدير إتصالات حزب العمال فى البدايات. وعمل بها أيضا الصحفي والكاتب، الروائي، السياسي البريطاني وعضو حزب العمال ألستير كامبل Alastair Campbell فى بداية حياته كمراسل صحفي. كانت الجريدة تطبع فى الساعات الأولى من الليل لتحملها شبكة القطارات وتلحق بفروع التوزيع فى أنحاء المملكة. وقتها كان رئيس التحرير الصحفي البريطاني Terry Cockerell الذي إستمر فى منصبه 22 عامًا حتي تسلم منه الرئاسة  Kim Adams  عام ١٩٩٣. الجريدة مازالت تصدر حتى اليوم بعد أن إشترتها شركة William Reed الإعلامية عام ٢٠١١.

***

علمتني الحياة بأن الايام تمر وتعقبها السنين وتلاحقنا التجارب وتعقبها الخبرة، فلا تيأس مهما كانت النتيجة فنهاية الفشل حتماً النجاح اذا وجد الإصرار والعزيمة. وتمر أقدار الحياة ثقيلة، فنظن أننا سوف نهلك بعدها، فإذا بلطف الله يهطل فجأة، ليذيقنا سعة الحياة ورغدها. فنفوسنا عند الإله وديعة، حاشاه يخذل صبرها ويردها، سيغيثنا يوما ويجبر كسرها ..

وجاءني الأمل فى إتصال من صديق صحفي إنجليزي تعرفت عليه فى غربتي الثانية وله حكاية.

 

شاهد أيضاً

مودي حكيم

الغربة الثانية (٦٤)
خدعة.. محتال الصحافة البريطانية!

فى زحمة العمل ومع إرتباطي الجديد كنت أشعر بالفخر وأنا أردد لكل المحيطين “أنا مشغول” …