الرئيسية / صحافة ورأي / عندما ألف الموسيقي الإنجليزي بريتن قداس أحلامه

عندما ألف الموسيقي الإنجليزي بريتن قداس أحلامه

ابراهيم العريس
إبراهيم العريس
  باحث وكاتب
حتى وإن كان اسمه يحيل مباشرة على كونه إنجليزياً من دون لف ودوران، فإن بعض المهتمين من بعيد بالموسيقى خلال النصف الأول من القرن الـ20، قد يحدث لهم أن يصنفوه بين موسيقيي حلقة فيينا الكبار. وفي هذا التصنيف بالتأكيد قدر من التسرع، لكن له منطقه على أية حال. فبنجامين بريتن اسم يتجانس مع آلبن برغ وشوينبرغ وغيرهما من أساطين تلك المدرسة الموسيقية النمسوية – الجرمانية، ثم إن فنه الموسيقي نفسه غالباً ما ارتبط كما حال موسيقى هؤلاء، بالشعر والرواية وحتى الفن التشكيلي، و”قاوم” الحرب مثلهم كمدخل لتدمير الحساسية الإنسانية. ثم أن بريتن وفي معظم إنتاجه الموسيقي بدا دائماً متأثراً بالتيار الإثني عشري، ناهيك بتأثره في بداياته في الأقل بموسورغسكي وسترافينسكي وغيرهما ممن كان لهم باع في خلفيات تلك الموسيقى المعاصرة. ومن هنا لم يكن صدفة إن يقول ديمتري شوستاكوفيتش عن “قداس الحرب” لبريتن أنه “أعظم موسيقى كتبت في القرن الـ20″، معترفاً بتأثيره الحاسم به في سيمفونيته الـ14. صحيح أن هذا كله قد يبدو كثيراً على موسيقي من طينة بنجامين بريتن (1913 – 1976)، لكنه بعد التمحيص يبدو مستحقاً بالنسبة إلى موسيقي لحن، وهو بعد في الـ10 من عمره سيمفونية للآلات الوترية لا تزال تعزف حتى الآن. وانتظر ليصبح في نحو الـ50 من عمره قبل أن يقترب من الموسيقى الدينية التي طويلاً ما قاوم رغبته في خوضها، ولكن على خطى الإيطالي جوزيبي فيردي ملحن الأوبرات الكبير في القرن الـ19 الذي لم يدن من الموسيقى الدينية إلا مرة واحدة في قداس فريد من نوعه.

وصية من شاعر قتيل

ما نتحدث عنه بالنسبة إلى بريتن هنا هو عمله الأكبر والأشهر، إلى جانب أوبراه “بيتر غرايمز”، المعنون “قداس الحرب”، وهو عمل موسيقى يجمع بين الأوراتوريو والموسيقى الجنائزية والصراخ الاحتجاجي ضد الحرب، كل حرب، ويدنو بالتالي من الشعر، ولكن من خلال نصوص شعرية مناهضة للحرب وجدت في جعبة جندي شاب يدعى ويلفريد أوين كان في الـ25 حين قتل على جبهة الحرب العالمية الأولى قبل ثمانية أيام فقط من إعلان الهدنة التي أوقفت تلك المجزرة العالمية الأولى من مجازر الإنسانية في الأزمنة الحديثة. ولعل اللافت في هذا السياق أن بريتن لم يؤلف موسيقى ذلك العمل الاحتجاجي إلا في زمن كانت الحروب تبدو فيه بعيدة هامدة، بعدما حلت الحرب الباردة محلها. لكنه سيقول إنه كان يحلم بموسقة تلك الأشعار منذ صباه الباكر، لكنه كان دائماً ما يؤجل المشروع “حتى أحسست أنني أقارب نهايتي ويجدر بي أن أتحرك”. وهو تحرك بالفعل لينتج عبر ذلك القداس ما يعتبر خلاصة حياته الموسيقية ووصيته الفكرية والفنية في وقت واحد، ولعل ما لا بد من الإشارة هنا إلى أن النص الشعري المعاصر الذي موسقه بريتن إنما أتى لديه متضافراً مع جناز لاتيني ديني معروف ينشد في العمل بصوت سوبرانو وكورس عادي وكورس من الأطفال كما في الكنائس نفسها وبتلحين يكاد يبدو دينياً خالصاً، يمر عبر صراع مع الجانب الإنساني الاحتجاجي الصاخب الذي تمثله موسقة أشعار الجندي القتيل، (وهذا القسم يغنى من ناحيته بصوتي باريتون، وتينور متضافرين مع أوركسترا خاصة بموسيقى الحجرة).

مزج بين الماضي والحاضر

والحال أن هذا يجعل من جوهر عمل بريتن في هذا القداس نوعاً من مزج متعمد بين توجهين تلحينيين أحدهما ديني خالص يعبر عنه جناز الموتى المعهود، والثاني شعري غارق في حداثة يلفت في تعليق بريتن عليها على هامش نوتاته أنه يحدد كيف أن “الغناء يجب أن يكون هنا محملاً بقدر كبير جداً من الجمال والبهاء مع تكثيف يفوق الحدود”. وكأنه أراد لهذا القسم الأخير أن يبدو، ومن الناحية الجمالية بالتحديد، متفوقاً على القسم الأول بحيث يكون هو ما يتبقى في ذهن متلقي العمل بعدما ينسى الجوانب التقليدية. وذلك حتى وإن كنا نراه من جانب آخر يصر على التركيز على الأبعاد الاستعراضية – بل “المسرحية” حتى – في تقديم القسم الديني الذي يكاد يكون تقليدياً لرغبة منه، مؤكدة في خلق نوع من التجاور بين الأبعاد “الجمالية” الثلاثة للعمل: البعد الديني العام والبعد الكنسي ذي الخصوصية الليتورجية الطقوسية، وأخيراً البعد المسرحي الاستعراضي. ولا شك أن بريتن كان يتقصد من ذلك التجاور أن يسعى لكي يوصل بأكبر قدر من المحاباة والتعاطف، صرخة ذلك الجندي الشاعر الذي كان قبل نصف قرن استخدم لغة شعرية بالغة المرارة والأناقة لوصف مشاعره هو ورفاقه، فيما يقتحمون ميادين قتل لم يكن أي منهم اختارها ولا الموت فيها مصيراً له أو لهم. ولعل هذا الاستنتاج الذي لم يكن صدفة أن نركز عليه حديثنا في الفقرات السابقة أكثر من مرة، يعكس شخصية بنجامين بريتن نفسه هو الذي كان من أكثر موسيقيي القرن الـ20 ابتعاداً من الإيديولوجيا ولكن اقتراباً من الفن الإنساني. وهو، على أية حال، بعد يعكسه تركيزه في عمله الموسقي ككل، على المضافرة بين الموسيقى التي هي مجال تحركه المهني واختيارته الجمالية، وبين الأدب وعدد من ضروب الإبداع الأخرى.

من أودن إلى مياكائيل آنجلو

ومن هنا يمكننا أن نفهم كيف أن بريتن ارتبط فنياً، ومنذ كان في العشرينيات من عمره، بالشاعر أودن ليتعاون معه عن كثب منذ عام 1935 مموسقاً عدد من أشعاره بل حتى مرافقاً له حين رحل أودن إلى الولايات المتحدة الأميركية سأماً من جمودية المجتمع البريطاني. ولكن هرباً أيضاً من الحرب العالمية الثانية التي اندلعت عام 1939 ممعنة في جعل القارة الأوروبية “حارسة الفنون الشريفة” بحسب تعبير أودن، “ميداناً للقتل والقاتلين”. وسيبقى بريتن، من ناحيته منفياً في العالم الجديد حتى أواخر عام 1942 حين عاد لإنجلترا ليؤسس “مجموعة الأوبرا الإنجليزية” التي على رغم اسمها الشامل، اشتغلت على تطوير “مسرح موسيقى الحجرة”. أما هو فإنه سيسهم في عام 1948 في إقامة أول مهرجان موسيقي ضخم في مدينة آلدبرغ، ناهيك بكونه أسهم بالعزف على البيانو في عدد من المناسبات. وبدءاً من تلك المرحلة وحتى سنواته الأخيرة، لم يتوقف بريتن عن تلحين الأوبرات وتأليف الكونشيرتات لشتى الآلات. وهو، كما سبق أن نوهنا أعلاه، جعل من الأعمال الأدبية، وحتى المسرحية، مرجعية اختياراته الموسيقية. ومن هنا رأيناه يموسق أعمالاً لشكسبير، ومنها بخاصة الموسيقى التي كتبها لمسرحية “حلم ليلة صيف” في عام 1960، ولكن خصوصاً في عام 1975 – ليكون هذا العمل من آخر أعماله الكبيرة على أية حال – تلحينه لعمل أوبرالي مقتبس من رواية “الموت في البندقية” لتوماس مان. فإذا أضفنا إلى هذه الاهتمامات الأدبية الاستثنائية، تلحينه السابق، وحتى من منفاه الأميركي على عتبة الحرب العالمية الثانية، تلك الألحان التي وضعها لسلسة أشعار “إشراقات” للشاعر ريمبو، وفي الوقت نفسه الذي كان يحضر فيه للاشتغال على موسيقى خاصة سيضعها في العام التالي، 1940، وخلال منفاه الأميركي، لسوناتات إيطالية الأصل من كتابة فنان النهضة الكبير ميكائيل أنجلو، وذلك قبل خمس سنوات من استعادته اهتمامه بفن السوناتا الشعرية وليس فقط الموسيقية في عام 1945 حين اشتغل أشهراً على موسقة “السوناتات المقدسة” للشاعر جون دان، يمكننا أن نفهم بكل بساطة تمسك بنجامين بالربط بين الشعر والموسيقى، وهو بالطبع التمسك الذي تعزز لديه من خلال علاقته بالشاعر أودن الذي لن يفوت بريتن أن يقول دائماً إنه كان هو من عرفه إلى تلك النصوص الشعرية التي بها ختم الجندي القتيل ويلفريد أوين حياته آخر أيام الحرب العالمية الأولى، فلم يكن صدفة أن يجعل هو، بريتن، منها أشبه بخاتمة لحياة عاشها من أجل الموسيقى والإبداع عموماً، ولكن تحت راية الشعر، والشعر الذي يريد أن يقول أشياء كثيرة قبل أي شيء آخر.

Independent News

شاهد أيضاً

لماذا يخطئ المثقفون؟… دور التنوير في مجتمعات ملتهبة 

يواصل الكاتب والصحافي الفرنسي الشاب صامويل فيتوسي (مواليد 1997) خريج قسم الاقتصاد في جامعة كامبريدج …