منذ نعومة أظافرنا وفطرتنا التي فطرنا عليها الخالق، تملي علينا أسئلة تحار العقول في الإجابة عنها، ومن أمثلة هذه الأسئلة أين الله، وما حقيقة وجوده، ولماذا هذه الحياة التي نحياها، ولماذا الخير والشر، وما حقيقة وجوده، ولماذا هذه الحياة التي نحياها، ولماذا الخير والشر، وما حقيقة الإنسان، وما مصيره، وهل ثمة حياة أخرى بعد هذه الحياة؟!
وقد يطرح علينا أطفالنا هذه الأسئلة بفطرتهم، وقد نتوقف عن الإجابة والرد عليهم، خشية ألا تصل بهم إلى معلومات مفيدة، لكن هي محاولة للإجابة عن مثل هذه التساؤلات الميتافيزيقية، أي التي ليس لها وجود مادي حسي مدرك وملموس، ومن هذا المنطلق بات الأمر ملحًا للدرس الفلسفي؛ الذي يعلمنا حجية ومنطقية الرد، والفلسفة نشاط عقلي متحفز لا يهدأ ولا يكل ولا يمل من طرح مثل هذه التساؤلات ومحاولة الإجابة عنها، وإلا سيفقد المرء هويته الفكرية ويصبح في مرمى اللا شيء ومن هذا المنطلق أضحى الأمر مهمًا وجليًا، ضرورة تدريسها وعدم التوقف عند مرحلة دراسية بعينها، لماذا؟
لأن الإنسان وفكره مستمران في الوجود ولا يزالان يطرحان الأسئلة الوجودية التي تكسبهما الحركية والاستمرارية والتواصلية، وإلا سيصبحان هما والعدم سواء، أو على أقل تقدير هما والأنعام سواء، لا فكر، لا تعقل، ومن ثم لا حياة.
فعندما نبدأ تدريس الفلسفة لطلاب المرحلة الثانوية بفرقها الثلاثة، نبدأ بطرح سؤال مهم، ما الذي ستستفيدونه يا أبنائي من دراستكم للفلسفة في هذه المرحلة العمرية، ومجرد أن نطرح على مسامعهم هذا السؤال، ننتظر إجاباتهم، فنجدهم يسكتون هنيهة محدقين النظر إما إلى بعضهم بعضًا، أو إلى سقف الغرفة، أو إلى معلم الفصل الذي طرح السؤال عليهم، لكن نجد منهم من يخرج عن صمته وعن اندهاشه من هذا السؤال، قائلًا: “لأن الفلسفة مقرر كأي مقرر دراسي ندرسه في قسم الأدبي نستذكره جيدًا ليزيد من مجموع درجاتنا”، هذه إجابة تقليدية، لكن ما الذي ستستفيده بني من هذا المقرر؟ يرد آخر قائلًا: “عندما نعرف محتوى المقرر ونستوعبه سنجد إجابة عن هذا السؤال”، وهذا رد قد يكون مقنعًا، لكن نطرح السؤال بشكل آخر: لماذا نحن هنا في هذا الفصل؟ نجد ردًا سريعًا، “لنتعلم ونحقق أهدافنا التي نحلم بها”، نجابهه بسؤال آخر: أنتم تريدون أن تتعلموا من أجل التعليم أم لغاية؟ “نعم لهدف هو الالتحاق بالجامعة، بالكليات الأدبية”، وما الذي يعينكم ويوسع مدارككم التحصيلية ويفتح عقولكم ويجعلكم تفكرون وتتكلمون بهذه الصورة التي نراها أمامنا؟، لا تسمع إجابة!!
إنها الفلسفة يا أبنائي؛ حوار العقل مع العقول الأخرى، إنها الفلسفة؛ حب الحكمة، فن التفكير المنظم، عرض الرأي والرأي الآخر ومناقشته قبولًا ورفضًا، إنها التفكير الناقد الذي يثري حياتنا.
إنها الفلسفة التي تهتم بدراسة العالم الآخر، يا أستاذ، “يا مستر”، هل هناك عالم آخر خلاف العالم الذي نعيش فيه، هذا هو السؤال الفلسفي، نعم يا صديقي العزيز، هناك عالم آخر بعيدًا عنا وقريبًا منا، بعيد لا تدركه مداركنا الحسية فلا تراه الأبصار ولا تسمعه الآذان ولا تلمسه الأيدي ولا نتذوقه كما نتذوق الأطعمة، لكنه قريب منا نراه بقلوبنا، نراه بأفئدتنا، نشعر بقربه معنا في حركاتنا، في سكناتنا في أدق تفاصيل تفاصيل حياتنا، أقرب إلينا من أنفاسنا التي نتنفسها، عالم آخر يحتوينا ونسعى جاهدين لاحتوائه، عالم الله، عالم الملائكة، عالم الجنة والنار، عالم العرش والكرسي، عالم آخر لا تدركه الأبصار لكن ربه ورب الأبصار يدرك الأبصار، فلا صغيرة ولا كبيرة ولا شاردة ولا واردة تعزب عن علمه، محيط بالكل وعنايته محيطة بكل شيء.
فما الذي يتيح لنا هذا الحوار المنطقي بأريحية تامة، مثلما كان يحاور سقراط تلاميذه، ويطرح عليهم أسئلة عن الشجاعة والقوة والفضيلة والرذيلة.
ومثلما حاور السوفسطائيين وأثبت مغالطاتهم، ودحض فرياتهم في حديثم عن طبيعة الإنسان، وأنها مجرد حشد من الأهواء والشهوات والرغبات، وعلى المرء ألا يستحي في إروائها، بان ذلك جليًا عندما فرق بين اللذة والسعادة، عندما قال أقواله المأثورة، “واهم من ظن أن السعادة في المال، والجاه والجمال والسلطان، وإنما السعادة الحقيقية في الرضا والقناعة”، بان ذلك في وسطيته، ودعوته إلى الاعتدال وعدم المغالاة والإسراف، وإنما محاولة التوفيق بين الجانبين المادي والروحي، ظهر ذلك جليًا عندما حدثنا عن نوعين من القوانين، مكتوبة وغير مكتوبة، مكتوبة وضعية لضمان حقوق الناس، وغير مكتوبة إلهية، بان ذلك عندما حدثنا عن فضيلة التربية البدنية، وعن فضيلة العمل، ولخص كل ذلك في قولته المشهورة “الفضيلة علم، والرذيلة جهل”.
تلقف هذه الآراء تلاميذه الذين عرفوا في تاريخ الفكر الفلسفي، وخصوصًا الفكر الفلسفي اليوناني، عرفوا بصغار السقراطيين، المدرسة الكلبية التي انتهجت الزهد طريقا لها لتحقيق السعادة، والمدرسة القورينائية التي اتخذت العيش الرغد وعدم الاكتراث بشيء، وعدم الانشغال بمتاعب الحياة طريقًا لتحقيق السعادة، لكن كلاهما ضلا طريق سقراط، الذي علمنا التوسط وعدم المغالاة، وعلى المرء ألا يميل إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا يكون لذويًا بالكلية ولا يكون زاهدًا متقشفًا يقتل نفسه، وإنما يكون في منزلة وسطية بين المنزلتين.
مثلما كان يعلم أفلاطون تلاميذه في أكاديميته، ويطرح عليهم أسئلة تخص العالم المادي وكيف يمكن التدرج منه صعودًا إلى العالم المثالي، عالم الحق والخير والجمال.
وكيف كان حال النفس في العالم الآخر، ثم هبطت إلى العالم الأرضي، فهبطت إلى هذا الجسد الطيني المادي الذي يحجب النفس عن عالمها الحقيقي، أي وجود النفس في هذا البدن بكل ما يحمله من أدران وشهوات، يحجب النفس عن الفكاك منه والانطلاق إلى عالمها الحقيقي الذي كانت فيه من ذي قبل، العالم الآخر مصداقًا لقوله تعالى: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا”، فالنفوس كانت في عالم الذر، العالم الآخر ونتيجة لخطيئة ما هبطت من هذا المحل الأرفع عالي المقام، وحلت في هذا الجسد لتكفر عن خطيئتها، فما إن تتخلص منه إلا وتنطلق محلقة في فضاء رحيب إلى عالمها الذي عشقته.
نعم ظهر ذلك عندما حدثنا أفلاطون عن أسطورة الكهف، فما حياتنا إلا كهف مظلم كبلتنا أغلال الشهوات والحياة المادية فأعمت أبصارنا عن الحقيقة المثلى، العالم الآخر، عالم القيم والنبل والطهر والصفاء، فما الدنيا إلا منفى – مثلما حدثتنا المسيحية عن ذلك – بأن ذلك عندما حدثنا أفلاطون عن نظرية المعرفة، وأن الإنسان في سبيلها دومًا يسعى إلى العلم والتعلم، فما أروع تشبيهه للنفس بالعربة المجنحة التي يجرها جوادان أحدهما يمثل الإرادة الشريرة، والآخر يمثل الإرادة الخيرة، والذي يمسك بلجامهما العقل أو القوة الحكمية، ظهر ذلك عندما حدثنا عن ثلاثية قوى النفس الإنسانية، الشهوية، الغضبية، العاقلة، فإذا ما سيطرت القوة العاقلة على قوة الشهوة وقوة الغضب تحققت العدالة المرجوة في كل زمان ومكان.
نعم الفلسفة تعلمنا متى نتكلم ومتى نتوقف عن الكلام، متى نناقش وندلي بدلونا، الفلسفة تعلم الإنسان أن يزن الأمور بميزان العقل.
الفلسفة هي السيدة الأولى لكل العلوم الإنسانية، فما دخل التفلسف في شيء إلا زانه، وما خلا من شيء إلا شانه، نعم التفلسف هو البناء المتكامل للعقول، تفكير في كل شيء، مهما بلغ من ضآلة الشأن مبلغ الطين والشعر.
نعم نمارس التفلسف في كل شئون حياتنا، وفي كل مجريات يومنا، فالفلسفة مثل الهواء والماء للإنسان، قالها طه حسين، التعليم كالماء والهواء، وأنا استعير منه هذه العبارة الخالدة، قائلا، التفلسف كالماء والهواء بالنسبة للعقل البشري، وإلا سيصاب الإنسان بالجدب والفقر والعقم الفكري.
نعم قالها أرسطو بكتاباته الخالدة عن فلسفة الطبيعة، وحديثها عن المحرك الأول، وحديثه عن العقل والعاقل والمعقول، قالها عندما حدثنا عن الأخلاق في كتابه الأخلاق النيقوماخية، الأخلاق الأوديمية، في حديثه عن الخيرات الثانوية والخيرات الأولية، في حديثه عن الوسط الأخلاقي، وأن الفضيلة تقع في منزلة وسطي بين طرفين كلاهما رذيلة، حتى وإن كان هذا الوسط اعتباريًا، إلا إنه بقولته الشهيرة خلد اسمه مع الخالدين، الفضيلة تضع الإنسان تحت عرش الإله.
قالها أرسطو في حديثه عن السعادة الأولية الباقية، وما دونها ملذات ثانوية تزول بزوال المؤثر، قالها في حديثه عن السياسة، وقالها في حديثه عن المرأة والإعلاء من شأنها ومعاملتها كإنسان يفكر ويبحث ويتفلسف.
إنها الفلسفة
* أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان
عن جريدة الأهرام