الرئيسية / صحافة ورأي / التعليم.. ومحنة لغتنا الجميلة (١)

التعليم.. ومحنة لغتنا الجميلة (١)

مودي حكيم
مودي حكيم
٩٠ عاماً مرّت على ميلاد «الإذاعة المصرية»، عبر الأثير، فسمع العالم «هنا القاهرة» أول مرة بصوت أحمد سالم، ثم توالت أصوات محببة، لمذيعين ملكوا عبر مسامع المصريين قلوبهم، ووجدانهم، من بينهم طاهر أبوزيد ؛ بابا شارو، آمال فهمى، فضيلة توفيق، صفية المهندس وغيرهم كثر، عاشت أصواتهم فى

وإذ ننسى، فلا ننسى فاروق شوشة، وكان صديقاً لى، أفتقده، ويرن صوته الرخيم فى أذنى عبر برنامجه «لغتنا الجميلة»، فقد كان حامى حمى اللغة العربية، وسيفها وترسها الواقى، يموج صوته فى أذنى، وهو «ينغم» مقدمة البرنامج، وهى أبيات لحافظ إبراهيم:

أنا البحر فى أحشائه الدرّ كامنُ، فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى..

لا يختلف اثنان على أن اللغة العربية تتعرض لمحنة، وتهميش لحساب اللغات الأجنبية، والسبب عدم قدرتها على مواجهة العصرنة والتقدم التكنولوجى وزمن المعلوماتية، فبقيت لغة عواطف، ونحيب على الأطلال، ولم تقترب من العلوم الحديثة. وتخلف اللغة عن مواكبة العصر هو فى الواقع تخلف الإنسان العربى، الذى لم يشارك فى «الثورة» التكنولوجية الحديثة، فظل مستهلكاً لمنتجاتها وليس منتجًا وفاعلًا فيها، ففرضت عليه لغتها، وتعابيرها، ومفرداتها. أصبحنا نستهزئ بلغتنا ونفتخر أننا نتكلم لغة غيرنا، حتى أصبح التكلم الإنجليزية أو الفرنسية علامة من علامات التحضر والتكلم بالعربية صار للتندر فقط والاستهزاء أحيانًا.. هذا التنكر للغة هو من علامات الهزيمة النفسية التى نعيشها.

ولا غروَ بعد ذلك كله، أن يصبح مدرس اللغة العربية شخصية كاريكاتورية، أشبه بشخصية نجيب الريحانى فى فيلم «غزل البنات».

وإذا كانت إجادة اللغة الفرنسية والإنجليزية نوعًا من الترف والوجاهة الاجتماعية، فإنها، حقيقة، باتت حاجة ضرورية للتعاطى مع الهاتف الخليوى، وجهاز الكمبيوتر، وحتى الألعاب الإلكترونية..

وما زاد فى طين منحة «اللغة العربية» بلّة، الإقبال على المدارس الأجنبية لتجاوز «عثرات» التعليم العام، وعجزه عن استيعاب التغيير وأحداثه، وضعف كفاءة المعلمين، وسوء المبانى المدرسية، فانتشرت ظاهرة المدارس الدولية، سواء الإنجليزية أو الأمريكية، التى لا يقدر على أقساطها المرتفعة إلا رجال المال والأعمال، ومشاهير الفن المقتدرون. والطامة الكبرى، أن هذه المدارس حذفت من مناهجها مواد اللغة العربية، والتاريخ، والتربية الدينية والوطنية، وإذا درّست اللغة العربية ففى استحياء وخجل، ومرضاة للمسؤولين عن التربية والتعليم فى الدولة، الأمر الذى نتج عنه تخريج جيل مُهجّن، عاجز عن تحقيق التوازن بين أسلوب ومتطلبات الحياة، وبين داخل المدرسة، والممارسة الاجتماعية مع باقى أفراد المجتمع.

بعد سنوات من الغربة فى المملكة المتحدة البريطانية، عدت إلى «المحروسة»، وباشرت العمل فى المجال الإعلامى الخاص، وبدأت فى تكوين جهاز عمل، فكنت، أتجاهل السير الذاتية CV) Curriculum Vitea اختصارًا) لمن يتقدم للعمل، فمعظم تلك السير الذاتية، يكتبها متخصصون، محترفون، فتأتى مبهرة، جذابة، خالية من الهنات والأخطاء الشنيعة، والأغلب على الظن أنها مبالغ فيها. فوضعت وسيلة جديدة للتعارف بالمتقدم بشكل مغاير للمعتاد، فكنت أطلب ملء «مستند التقديم» باليد، وشهدت العجب، فكانت الاستمارات مليئة بأخطاء إملائية غريبة، ليست مشابهة للأخطاء الشائعة فى علامات التشكيل، أو كتابة الألف المقصورة عوضًا عن الألف الممدودة، أو التاء المربوطة عوضًا عن التاء الممدودة.. مثلاً، لم تكن أخطاء فادحة بل فاضحة، ولمّا أزل أحتفظ باستمارة، أنقل منها الآتى:

عنوان السكن، الدور «الأوضي»، بدل « الأرضي»، «مصر الجديدا» وليس «الجديدة».

والمؤهل الدراسى، «بكلريوس » أما الكلية فهى «الاعلم » بدل «الإعلام»، وهلم جرًّا… ناهيك عن رداءة الخط اليدوى سواء باللغة العربية، أو الإنجليزية. وقد وصل الأمر أن بعضهم، يعجزون عن التعبير باللغة العربية فيلجأون إلى الأحرف اللاتينية، وهذا ما لم يستطِع الاحتلال الأجنبى أن يحققه!

لا ملامة، ها هنا، على مدارس اللغات، الأجنبية، إنما اللوم، كل اللوم، هو على «المنظومة التعليمية »، التى تحتاج إلى فهم محدث، لتدريس اللغات، ونفض المنهج، من الشوائب، وتجديده على أحدث أساليب «علم اللسانيات» Linguistic الذى يتضمن علم الأصوات الكلامية Phonology وعلم التشكل أو الصرف Morphology وعلم بناء الجملة وتركيبها وترابطها Syntax وعلم الدلالات اللغوية اللفظية Semantics.

أين مناهج تدريس اللغة العربية، عندنا، من هذه العلوم المتطورة التى دخلت على علم اللسانيات، وتدريس اللغات؟ يكفى مراجعة الكتب المدرسية المتداولة لنعرف أننا مازلنا نعتمد الأسلوب الذى تجاوزه الزمن، وما عاد معتمدًا فى التعليم الحديث.

زمان، سقى الله أيام زمان، لم يكن لتعليم اللغات الأجنبية بالمدارس والجامعات الحكومية أى أثر سلبى على اللسان العربى، حتى المستعمر الإنجليزى، لم يطمس الهوية الثقافية للشعب، فالإدارة الأجنبية لنظام التعليم، فى هاتيك الزمن، كانت شديدة الحرص على تدريس اللغة العربية، نحوًا، وصرفًا، وأدبًا، وبيانًا، وبلاغة، على نحو لم يدرك إتقانه أى نظام تعليمى فى مصر طوال عقود لاحقة بعد التحرر من الاستعارالبريطانى.

لغتنا الأم جزء أساسى من الهوية القومية، لغتنا العربية أحد المحددات الحيوية للهوية الوطنية، فهى الوعاء الحضارى الذى نستمد منه سمات الشخصية المواطنة الصالحة.. فهل القضاء عليها وجه من الوجوه القبيحة المتسللة لحروب الأجيال الرابعة أوالخامسة التى تحاول أن تخترق مصر، ومع الأسف فإن اللغة العربية فى مدارس الحكومة ليست أحسن حالًا.

 

عن جريدة ” المصري اليوم “

شاهد أيضاً

برغمان بين المسرح “زوجته” والسينما “عشيقته”: لا مكان للغيرة

    يعرف أهل السينما وجمهورها النخبوي أن المخرج السويدي الراحل إنغمار برغمان لم يكن مبدعاً سينمائياً …