الرئيسية / كلمة العدد / عاشق مصر ..القناص .. الفنان !
مودي حكيم
مودي حكيم

عاشق مصر ..القناص .. الفنان !

صديقي الذي التقيت به اول مرة منذ حوالي 62 عاماً ، مختلف عن كل اصدقائي ، فمعظم أصدقائي القدامى هم كما كانوا من قبل..كنا نلتقي فجأة وعلى غير توقع…كل واحد منهم تغيرت ملامحه  وأصبح عبئا على ذاته …لم تعد ابتسامتهم كما كانت من قبل عريضة قوية حية، لقد ثقل عليهم حملها، وضاقت به أرضهم ، وأرهقتهم  الأيام .  ولكن صديقي هذا لم يفقد ابتسامته ، لم تضيق به الأرض ، فقد احب الأرض وعشقها ، وحمل السلاح وحارب  من أجلها ، كنا نلتقي من بعيد…أو نلتقى فى أحد معارضه التى كنت حريص على حضورها ، رغم غربتي فى المملكة المتحدة  ، أثناءها كان حريصاً على زيارتي فى لندن مع زوجته الفنانة الفاضلة ، خلال السنوات الأربع التى قضاها فى اسبانيا ، نستعيد ذكريات الأمس الجميلة.. والعيون تنطق بما تخفيه الألسن من كفاح الأيام…وقلما يحدث احد صديقه بما يقلقه أو يرهقه ، وتغيب الشمس خلف الأفق وينكفئ كل منا إلى ذاته يحدثها بما يثقل كاهله من هموم الأيام…..

التقيت بالفنان الجميل احمد نوار فى معرضه بجاليري ياسين بالزمالك ، لأستمتع بابداعاته  تحت مظلة     ” العلم ” الذي يحمل عنوان معرضه ، والعلم بفتح العين واللام يعني راية ،  يُمثل الهوية للوطن للحد الذي جعله مقدسًا ، متصدراً كتيبه ثلاث صور فوتوغرافية لمشهد العلم المصري على أرض سيناء فى حرب السادس من اكتوبر 1973 التى شارك فيها ، وبقى فى ذاكرته صورة البطل محمد العباسي أول من رفع العلم فى حرب استرداد الكرامة ، والصورة الفوتوغرافية الثالثة للعلم فى حرب استرداد الحق – طابا 25 أبريل ” نيسان ” 1982 ، فالعلم رمز العزة والكرامة والسيادة والأصالة والمكانة والشموخ، كما أنه رمز للهوية، والمتحدث الرسمي دونما صوت في المحافل الدولية والمحلية والخارجية كافة. وللعلم قدسية وانتماء ووطنية، وبه يلف جسد شهيد الوطن والواجب، فخراً بما قدمه وبما يؤكد مكانة العلم كرمز للقوة، والشجاعة والتضحية، فضلاً عن كونه وساماً للأحياء، ويرفع على جميع الرؤوس . خلال تجنيده  تم اختياره فى سلاح القناصة نظرا لتفوقه فى القنص ، وخلال الفترة التى استمر فيها تجنيده قنص 15 مقاتلا إسرائيليا،  سافر إلى إسبانيا وظل بها 4 سنوات كمنحة من الحكومة الإسبانية على أنه وقت حرب أكتوبر 73 كان فى مدريد وطلب حينها الرجوع والمشاركة فى حرب التحرير، ولكن تعذر وجود أى وسيلة سفر لمصر دون ذلك، كان لديه إحساس بالوطن وحنينه  لعودة سيناء، ولعل ذلك هو الذى جعله هذا ينضم للفرق الفدائية وقت حرب الاستنزاف ، وكان حلمه أن يعود علم مصر يرفرف على ارضنا فى سينا . وتحقق الحلم ، فكانت أسعد لحظات عمره وهو يري مصر تسترد حقها ، ويرفع علم مصر على أرض سيناء  ، واصبح العلم فى أعماله رمزاً لمصر. 

ترجع صداقتي لأحمد نوار الى سنواتي الأخيرة بالفنون الجميلة ، عندما التحق بالكلية وتخصص فى فنون الحفر والجرافيك ، لفت نظر أساتذته ، تعارفنا وتصادقنا وجمعنا حب واعجاب بالفنان الحسين فوزي و حسين بيكار ، اثناء الدراسة  سافر نوار  فى رحلة نظمتها الكلية إلى روما ، وصادف أن التقي هناك  بالكاتب الكبير الراحل أنيس منصور  تحت سقف كاتدرائية القديس بطرس في روما. جاء هذا اللقاء امام ابداع هذا العمل المهيب (يوم الحساب). والجميع يتطلع لروائع العظيم مايكل أنجلو. ليقطع الإنبهار والاندهاش الذي خيم على رؤؤس الحاضرين الكاتب الكبير أنيس منصور بسؤال استنكاري. هل يمكن أن نرى فنانا مصريا في عصرنا هذا يبدع مثل هذه الروعة ؟ . جاء سؤاله خاطفا ومتبوعا باستكمال حديثه. وكأنه لا ينتظر إجابة من الجميع. وهنا بدأت الفكرة تهاجم عقل وموهبة الطالب أحمد نوار. وقرر أن يخوض ذلك التحدي الصعب. ليشمّر عن سواعده وهو أهل له  .

عاد الى القاهرة وقرر الغوص بالبحث والإطلاع فى المتون الدينية من يهودية ومسيحية وإسلامية ، و كل ماذكر عن ” يوم الحساب ” ليكون موضوع مشروعه للتخرج ، مستخدماً  ما يوازي 500 قلم رصاص وكان السطح من خامة الورق. وكان قرار القياس في العمل قرار جريئا. فهو يقع في حيز مسطح يقترب من الثلاثين مترا مربعا. بطول مستعرض حوالي ال 10 أمتار طولية وارتفاع يقترب من الثلاثة أمتار طولية. 

وجاء إنجاز العمل فى مدة اقتربت من الشهور الستة  ، ليخرج العمل المميز  يعكس قاعة المحاكمة الإلهية  فى الحساب الأخير ، بفلسفة وعمق وتبحر  في ماهية الطرح ، ومزج بين التعبيرية والسريالية  ،  عنصر اﻹضاءة مبهر  في هذا العمل. ويعتبر من أقوى سمات العمل ليس من الناحية التقنية والمهارية فقط. ولكن من الناحية المفاهيمية. فاﻹضاءة مثلتها  المسطحات البيضاء ، مع رماديات متدرجة . وكان هذا العمل الإبداعي مشروع تخرجه من كلية الفنون الجميلة فى عام النكسة 1976 التي أصابته بصدمة اصابت كل المصريين ، وبقي  أثر هذه الحرب حاضرا في أفكاره ومسيرتيه ، و انغماسه في القضايا الإنسانية، فساهم  في التعبير عن الآلام الإنسانية والحقوق المفقودة على مستوى العالم، وفي مقدم هذه القضايا فلسطين التى استحوذت على عدد كبير من أعماله الفنية فرسم ما يقرب من 70 لوحة عنها.

***

 عندما توليت مسئولية الاخراج والإشراف الفني لمجلة صباح الخير ، دعوت الصديق الفنان للتعبير بريشته على محتوي مقالات الكاتب الفيلسوف د. مصطفى محمود ، فلم أري انسب منه بين فناني روزاليوسف ليعبر بريشته ويغوص فى أعماق فكر مصطفي محمود ، وقتها قرر مصطفي محمود دراسة الاديان    في رحلة طويلة بدأت بالديانات الهندية، ثم البوذية والزرادشتية والنيوصوفية ثم اليهودية والمسيحية والإسلام، ليستقر على أن القرآن الكريم به كل ما يبحث عنه. وانتهت رحلة الشك إلى اليقين في الفترة ما بين عام 1970 و2009، فتوالت كتاباته في الإسلاميات مثل  “القرآن محاولة لفهم عصري”، و”رحلتي من الشك إلى الإيمان” و”حوار مع صديقي الملحد”. وفى هذه المرحلة، اتخذ موقفا صريحا مناهضا ومضادا للفكر الماركسي والفكر الشيوعي، وظهر هذا التوجه في كتب عديدة منها “لماذا رفضت الماركسية؟” و”أكذوبة اليسار الإسلامي” و”سقوط اليسار”. وقتها شكرني د. مصطفي محمود على اختياري لهذا الفنان الذي استوعب بإحساس الناقد المثقف مضمون مقالاته تميز بصدق ، فأجاد التعبير عنها

بعدها تولي العديد من المناصب من التدريس بالجامعات ، مؤسساً كلية الفنون الجميلة بالمنيا وغيرها الى أدارة المؤسسات الثقافية فى المحروسة  ، سيرة ذاتية غنية لا مجال هنا لسردها ، وقد واجه تحديا كفنان غزير الإنتاج وكمسؤول عن قطاع الفنون التشكيلية، وقطاع المتاحف الأثرية وقطاع إنقاذ آثار النوبة وغيرها من المهام الوظيفية. كان يواجه المستحيل ، وقاوم الروتين الحكومي ، ورشح أكثر من مرة لمنصب وزير الثقافة  .

تميزت أعمال نوار فى سنواته الإبداعية من رحلة الخلق الفني بالأبيض والأسود الذي يعدّ مفردة أساسية من مفردات اللوحة عنده ، ثم جاءت أعماله بتكوينات  تتداخل فيه أشكال هندسية حادة الروابط المتشابكة بين البشرية والحضارة لتضعها تحت المجهر، وتحفز مشاعر المتلقي لاتخاذ رد فعل استجابة المتغيرات المتسارعة، ويصبح جزءًا من التغيير أو يكون التغيير بحد ذاته. 

وجاء معرضه الأخير عن ” العلم ” والتي حملت انتماءً وطنياً جارفاً يجعله من العاشقين الكبار للوطن المصرى العريق  ، بالوانه الأحمر كرمز للثورة على العهد المنصرم ، ولاح الأسود رمزاً لفترة حالكة الظلام تصدرها الإقطاع والاستعمار ، واللون الأبيض إيماءً للنور القادم من المستقبل .

اتمني ان تهتم الدولة بأعمال الفنان الذي قاتل من أجل بلده واعماله تتصدر الموسوعات الفنية وتماثيله الميدانية تتوسط عواصم منها المكسيك ، لابد ان يحتوي  متحف يحمل اسم احمد نوار هذه الثروة الفنية  .

 

مودي حكيم

شاهد أيضاً

مودي حكيم

85  عاماً صحافة. 2
أساتذة الإعلام الصحفي فى عيدهم !

  تكررت زياراتي للدكتور عبد اللطيف حمزة  لأنهل من علمه الفن الصحفي قبل انتدابه للتدريس …