الرئيسية / صحافة ورأي / ظاهرة الكوارث الطبيعية تربك الوعي الإنساني المعاصر

ظاهرة الكوارث الطبيعية تربك الوعي الإنساني المعاصر

حين يعاين المرء الأهوال والكوارث والفظائع التي تعصف بالأرض لا يملك إلا أن يتصورنهاية العالم في هيئة الانهيار الشامل المطبق. في العقدين الأول والثاني من القرن الـ21، انبرى غير مفكر يحلل أسباب الانهيار الطبيعية والبيئية والتقنية. من جراء تراكم الأبحاث الاستنبائية هذه، نشأ حقل بحثي جديد دعي مبحث الهوليات أو بالأحرى مبحث الانهياريات (collapsologie). في عام 2015 أصدر الباحثان بابلو سرفين ورافايل ستفنس كتاباً جدلياً تناولا فيه ظاهرة الانهيار الحضاري الشامل المقبل “كيف يمكن أن ينهار كل شيء؟” (Comment tout peut s’effondrer ? Petit manuel de collapsologie à l’usage des génération présentes).

يعتقد علماء الانهياريات أن الإنسان المعاصر شوه البيئة الحاضنة تشويهاً بنيوياً لا شفاء منه، إذ فاقم الاحترار البيئي وأنهك التنوع البيولوجي في الطبيعة الأم. ومن ثم، لا مفر من الانهيار الآتي الذي تسببه الأزمات البنيوية المتراكمة: أزمة البيئة، وأزمة الطاقة، وأزمة الاقتصاد، وأزمة الديموغرافيا المتعاظمة، وأزمة الصراع الجيوسياسي، وأزمة النظام الديمقراطي العالمي، وأزمة القيم الأخلاقية والمثل الروحية.

استثمار الرياضيات في احتساب مواقيت الانهيار الشامل

من اللافت في هذا الحقل أن الكلام على وقوع الواقعة في يوم الانهيار الأخير أخذ يخضع لأدق الحسابات الاحتمالية، كتلك التي ساقها عالم الرياضيات وإحصاء الأخطار اللبناني – الأميركي نسيم نقولا نجيب طالب (1960)، إذ ربط الانهيار الشامل بحسابات رياضية شديدة التعقيد تخالف عملية الاستنباء عن حدوث الخوارق التي تشبه ظهور البجعة السوداء، غير أن مبحث الانهياريات ليس وليد الصدفة العلمية، بل يرقى إلى الأبحاث الاقتصادية التي أنشأها في عام 1972 نادي روما (Club de Rome) في تقرير ميدوز (Meadows Report) الذي استجلى بواسطته علماء جامعة ماساتشوستس (MIT) حدود النمو (The Limits of Growth).

لا غرابة، من ثم، في أن يذهب كثير من علماء الانهياريات إلى الإعلان عن قرب نهاية الحضارة الصناعية. أما السبب الجوهري فاستنفاد الموارد الطبيعية واختلال التوازن الطبيعي في الجسم الإنساني وفي البيئة الأرضية الحاضنة، بيد أن الاختلاف لا يلبث أن يقع في شأن الموعد المرتقب. يجرؤ الباحث الفرنسي وزير البيئة الأسبق إيف كوشه (Yves Cochet) فيستبق الأحداث، معلناً أن الانهيار ممكن في عام 2020، مرجح في عام 2025، مؤكد في عام 2030. من الواضح أن ترقبات الوزير الفرنسي اليساري المثقف ضلت طريقها، شأنها شأن جميع الترقبات الأخروية النشورية القيامية التي ترددت أصداؤها في محافل الفكر الديني والسياسي الأيديولوجي على تعاقب الأزمنة. الوزير عينه هذا توقع أن تختفي السيارات في عام 2040، وأن يعود الناس إلى استخدام الحصان في تنقلاتهم. أما العلماء الذين لم يجازفوا في ترقباتهم، فاكتفوا بالإعلان عن بداية مسار الانهيار الذي سيدوم فترة طويلة، وسيصيب أجزاء من الكرة الأرضية بحسب نسبة التلوث التي ما برحت تتفاقم في أرجاء المعمورة. ومع أن الانهيار لم يبلغ حده الإفنائي الأقصى، إلا أن آثاره بدأت تظهر في الكوارث الطبيعية، وكذلك في الصدمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي ما انفكت تزعزع كيان الإنسان الجسدي والنفسي.

مبحث الانهياريات في مسار تكونه التاريخي

ليس مبحث الانهياريات وليد المعرفة المعاصرة، بل نشأ في فكر أقدم الفلاسفة والعلماء الذين أكبوا يستشرفون أحوال الحضارة الإنسانية في أطوار نشوئها ونموها وازدهارها وضعفها وانحلالها وأفولها. لن أذكر المفكرين والمؤرخين القدماء الإغريق والرومان الذين عاينوا في كل حقبة من حقبات التاريخ الإنساني مظاهر الانحلال المربكة. أكتفي باستحضار مؤسس علم الاجتماع الحديث المؤرخ التونسي ابن خلدون (1332-1406) الذي وصف في مقدمته الشهيرة دورة الحياة الحضارية. كذلك صنع الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (1689-1755) الذي حلل سقوط الإمبراطورية الرومانية في كتابه “معاينات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم” (Considérations sur les causes de la grandeur des Romains et leur décadence). أما التحليل العلمي المقترن بالأسباب البنيوية، فساقه عالم الاقتصاد البريطاني الكاهن الأنغليكاني توماس روبرت مالتس (1766-1834)، إذ أيد حتمية الكارثة الدموغرافية واندلاع الصراعات المرتبطة بمحدودية الإنتاج الزراعي وندرته.

في السياق الاستنبائي عينه، حاول عالم التشريح الفرنسي جورج كفييه Georges Cuvier (1769-1832) أن يبني نظرية جديدة في علم الكوارث (catastrophisme) تجتهد في استنطاق المعتقدات الدينية البدائية المتعلقة بنشوء العالم وتطور الأجناس. يمكننا أيضاً أن نذكر دراسة عالم الاقتصاد الفيلسوف النمسوي ليوبولد كور (1909-1994)، وعنوانها “نهاية الأمم العظيمات” (Das Ende der Großen. Zurück zum menschlichen Maß)، ودراسة المؤرخ البريطاني الباحث الجيواستراتيجي بول كندي (1945) “نشوء القوى العظيمات وسقوطها” (The Rise and Fall of the Great Powers)، وفيها يحلل سياسة هذه الدول واقتصادها، على تعاقب أربعة قرون (1500-1980)، تحليلاً يبين لنا الأسباب البنيوية التي أفضت إلى انهيارها الحتمي.

اجتناب الانهيار في حضارة التعاطف الإنساني

لا يكتفي علماء الانهياريات باستنباء التاريخ عن موعد السقوط المدوي، بل ينبري بعضهم يزرعون الأمل في نفوس الناس على قدر ما يستشرفون زمناً حضارياً جديداً مختلفاً يحمل إلى الإنسان وعود التحول البنيوي العميق (transhumanisme) أو التجاوز الكياني الأقصى (posthumanisme). تستند هذه الاستشرافات إلى الأبحاث الفلسفية الروحية التي ساقها عالم الإحاثة اللاهوتي الكاثوليكي اليسوعي الفرنسي الأب تيار دشاردن (1881-1955) في تحليل بنية التطور البيولوجي، والأبحاث الدماغية التي أنشأها عالم الكيمياء الأكراني فلاديمير فرنادسكي (1863-1945) من أجل التثبت من تطور البنية العقلية في الفكر الإنساني (noosphère) وأثرها في استيلاد حضارة إنسانية مروحنة تعزز مقام الإدراك الذهني الأدق والأشمل والأرقى.

لا ريب في أن هذه الاجتهادات تشير إلى رغبة الإنسان المعاصر في الانعتاق من مأساة الانهيار والتحول إلى وضعية حضارية ثورية. من بين النظريات المستقبلية التي تجتهد في ابتكار نظام اقتصادي جديد يتجاوز أسباب الانهيار الشامل يمكننا أن نستحضر نظرية عالم التخطيط والاستشراف الاقتصادي الأميركي جرمي ريفكين (1945-…) الذي استخدم اصطلاح الثورة الصناعية الثالثة التي تستطيع أن تضطلع بمسؤولية الأخطار الناجمة عن التأزم الاقتصادي العالمي والاستنفاد المواردي، لا سيما في حقل الطاقة، والتلوث البيئي البنيوي. ريفكين هذا أسس منتدى الثورة الصناعية الثالثة الشاملة، وضم إليه أبرز عباقرة العالم في حقول الطاقة النظيفة، والهندسة البيئية الإنعاشية، وتكنولوجيا المعلوماتية والتواصل، ومكاتب التخطيط والنقل، والمؤسسات العقارية الاستثمارية.

أما الغاية المنشودة فالفوز بتصور إنسي يمهد السبيل إلى نشوء حضارة التواد والتعاطف بين الناس من أجل التغلب على أخطار الاستهلاك الإفنائي، استهلاك الأرض واستهلاك الأرضيين أنفسهم، وتخطي عقبة اختلال الطاقة الحية وانحلالها التدرجي. في كتابه “الحضارة المتعاطفة: السعي إلى وعي كوني في عالم متأزم” (The Empathic Civilization. The Race to Global Consciousness in a World in Crisis)، يصرح جهاراً بأن مستقبل البشرية مرتبط بمقدار المودة الصادقة الناشطة بين الحضارات: “إذا كانت الطبيعة البشرية مادية حتى النخاع العظمي، بأنانيتها ومنفعيتها واستمتاعيتها، فإننا لن نستطيع أن نأمل في حل التناقض الناشب بين مبدأي التعاطف والاختلال، ولكن إذا هيأتنا هذه الطبيعة، في الأعمق من كياننا، للاندفاع التعاطفي، يبقى من الممكن، في الأقل، أن نفلت من قبضة التنازع بين هذين الحدين، وأن نضبط التوتر ضبطاً محكماً يتيح لنا أن نستعيد التوازن المستديم في محيط الكرة الأرضية الحيوي”.

مواضع الضعف في مبحث الانهياريات

لم يرق مبحث الانهياريات إلى مستوى العلم الموثوق، بل ما برح الباحثون الرصينون يجتهدون في استثمار خلاصات العلوم الوضعية والإنسانية من أجل توطيد دعائمه المعرفية، وفي اعتقادهم أنه مبحث حديث العهد ينبغي أن ينعتق من هيمنة التصورات الدينية الأخروية القيامية الأبوكاليبتية. في دراسة حديثة العهد عنوانها “هل مبحث الانهياريات علم؟” (La collapsologie est-elle une science ?)، يبين الباحث الفرنسي جاك إيغالن (1950-…) أن هذا الحقل ما فتئ يفتقر إلى النموذج الإبيستمولوجي الملائم والأساس المعرفي الراسخ، ذلك بأن استشراف علامات الكارثة البيئية الآتية لا ينشئ علماً صلباً. عوضاً عن المساهمة في إنتاج معرفة جديدة مفيدة ترشدنا إلى فهم أفضل، يقتصر البحث في هذا الميدان على سردية تصف أحوالنا المضطربة وتحذر من انهيار الحياة البشرية.

أما أستاذ علم الاجتماع الفرنسي برترن فيدال الذي كان جريئاً في كتابه “النجاتية. هل أنتم مستعدون لنهاية العالم؟” (Survivalisme. Êtes-vous prêts pour la fin du monde ?)، فيميز مبحث الانهياريات من علم الأخطار (cindyniques) المبني على استقصاءات علمية شديدة الإحكام والإتقان. في رأيه أن علم الأخطار حقل معرفي عقلاني يتحرى سبل تجاوز الكوارث بواسطة الإعداد التقني الملائم، في حين أن مبحث الانهياريات يدق ناقوس الخطر ويغالي في رثاء الحضارة الإنسانية الساقطة.

وقوع الواقعة في كل الأزمنة الحضارية

يكفينا أن نتخيل مشاهد الفناء التي كان بوسعها أن تبيد الناس من على وجه الأرض، لو امتلكت النازية الألمانية والإمبراطورية اليابانية تقنيات القنبلة الذرية. المأساة عينها قد تتكرر اليوم إذا أفضى التحارب العبثي في أوكرانيا إلى استخدام السلاح النووي. كذلك اختبرت البشرية حدود الإفناء الوبائي في حقبات شتى من تاريخها القديم والوسيط والحديث. لن أذكر النيازك الفتاكة التي ضربت الأرض منذ ملايين السنين، فأفنت فيها الحياة طوال قرون من الزمن. لو كان البشر يحيون حياة عاقلة في تلك الأزمنة، لقالوا بنهاية العالم من غير تردد. أما الجوائح التي فتكت بالناس على تعاقب أزمنة الحضارة الإنسانية المعروفة، فجعلت الناس أيضاً يشعرون بانحلال الوجود البشري واقتراب يوم الهلاك. ومن ثم، يجب على جميع الذين ينذرون اليوم بعضهم بعضاً شراً، ويهولون الأحداث، ويبالغون في تأويل عواقبها أن يقرأوا أخبار الضيق والمجاعة واليأس الوجودي في أزمنة الاحتراب الكوني المعاصرة في القرن الـ20، أو حتى في الأزمنة الوسيطة وما قبلها. في كل احتراب إبادي كان الناس يظنون أن نهاية العالم أوشكت أن تعتلن اعتلان الإفناء الشامل.

القدرة العلمية التقنية على اجتناب الويلات

وعليه، ينبغي التحوط ووزن الأمور بميزانها الصحيح. لا بد للعقل السليم من أن يسأل عن الاستعدادات العلمية التقنية الضرورية التي كان بإمكانها أن تجنبنا أهوال الدمار والهلاك، سواء في حروبنا الحديثة والمعاصرة العبثية أو في الكوارث الطبيعية الحديثة العهد. ما نفع تطور الوعي الحضاري في الأزمنة الحديثة إذا لم يسعفنا في اجتناب الاحتراب العبثي الإفنائي؟ أفيكون الاقتتال من علامات نهاية الزمن؟ أم من آثار الانحطاط الأخلاقي الذي يعيث فساداً في عقول الأنظمة السياسية المشحونة بتصورات التطرف القومي والديني والأيديولوجي؟ لا شك في أن الإنسان الذي أنتج الحضارة الفكرية الراقية هذه، في مختلف بقاع المسكونة، كان في مستطاعه أن يصنع العجائب التفاوضية من أجل الاحتراز الفطن وتحاشي الاقتتال.

يصح القول عينه في التحوط العلمي التقني الرامي إلى استدراك غضب الطبيعة، سواء في اعتماد سياسة الاعتدال البيئي وصون إيقاع الطبيعة، أو في الاستعداد المتيقظ لتدبر آثار الزلازل والفيضانات والأوبئة. أفلا يعلم الجميع أن المجتمع الياباني وجد الحل الهندسي الملائم الذي غداً يجنب اليابانيين أهوال الزلازل؟ أصبح من الممكن اليوم اتقاء الكارثة الطبيعية بفضل علم الأخطار والتقدم التقني العظيم الذي أنجزه العقل البشري. أقول هذا كله لأبين أن الحروب والكوارث ليست قدراً غاشماً ينزل على الناس نزول الصاعقة المهلكة. لو تحلت المجتمعات الإنسانية المعاصرة بالحد الأدنى من العقلانية والأخلاقية، لاستطاعت أن تتجنب الويلات وتتدبر المآسي.

مغادرة الأرض وتبديل قوام الإنسان ومغامرة السكنى في الفضاء

ومع ذلك، يجب الاعتراف بأننا إذا قارنا الأهوال التي كانت تهدد البشرية جمعاء في الأزمنة الماضية بالأخطار الوجودية الشاملة الراهنة التي تنذرنا بأوخم العواقب، تبين لنا أن الإنسان المعاصر أضحى اليوم يعد سبل الفناء إعداداً علميا في ثلاثة حقول: الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه أن ينوب مناب البشر في هيئات شتى، والقدرة التقنية الهدمية الإفنائية التي لم تكن البشرية تمتلكها قبل القرن الـ20، وإتقان الاستعدادات النهائية من أجل الإقامة خارج الأرض في صورة دائمة وفي قوام جديد نصفه إنساني ونصفه الآخر روبوتي. أذكر الاحتمالات المربكة هذه لأبين للجميع أن مبحث الانهياريات يختبر اليوم تحولاً جذرياً تسوغه الفتوحات العلمية التقنية المتفلتة التي قد تفضي إلى نشوء وجود إنساني مختلف. 

لا أقول بنهاية العالم، بل بنهاية هذا العالم الذي نعرفه، وباستهلال كيفيات آخر في الوجود لا نملك اليوم كل المعطيات الاستنبائية التي تؤهلنا لوصفها وصفاً دقيقاً. في هذا السياق حصراً، أوافق علماء مبحث الانهياريات في إجماعهم على قرب زوال الحضارة الإنسانية التي تعودنا العيش في كنفها والسلوك بحسب معاييرها الناظمة. لست أملك الاصطلاحات التي تتيح لي التعبير عن الحياة الجديدة التي ستنبثق من زوال القديمة، ولكني أستطيع أن أشير إلى الاحتمالات المرعبة المرتسمة في أفق العقود الباقية من القرن الـ21. لن تبلغ البشرية خاتمتها قبل أن يحل فينا ما صنعناه بأنفسنا من اقتتال وتلويث وإبادة بيئية، فضلاً عن ذلك، لن يرتدع العقل التقني المعاصر عن ابتكار هيئات جديدة من التطور النانوبيولوجي والنانوتكنولوجي حتى يفضي إلى استحداث شكل غريب عجيب من القوام الإنساني لا يبقى من هويته الإنسانية سوى إرثه الجيني القديم.

أعتقد أن الأرض لن تبقى على الصورة التي نعرفها اليوم، إذ ستنفجر من شدة التلوث الذي نستزرعه في بقاعها وسهولها وأوديتها، وأيضاً في محيطها الفضائي الحيوي الأقرب. قد ينجينا الدهر من نيزك يضربنا في عمق أرضنا ويبيدنا عن بكرة أمنا، ولكن الأدهى يقع حين يفرط الإنسان في استنفاد مصادر الحياة، ويشعل في الأرض كلها نيران الحقد الإفنائي. أما سبيل النجاة الوحيد فأعاينه خارج الأرض، في بقعة مظلمة من البقاع الفلكية الفضائية تحبس على الأجيال القليلة المغادرة في غلاف زجاجي يقيها شر الأشعة الفتاكة. حيئنذ لن ينفع الندم، ولن يشفع التحسر، ولن تفيد التوبة المتأخرة. أمام المشهد الحياتي الانقلابي الجذري هذا، ينعقد الأمل على نخبة من الناس يتنادون من جميع الحضارات والمجتمعات لكي ينبذوا الخبث المستفحل في وعي المتزمتين القوميين والأصوليين المتدينين والمضللين المؤدلجين والمنفعيين المرابين، ويسارعوا إلى استنقاذ ما يمكن استنقاذه من عطف الأرض التي تنفرد باحتضانية مذهلة من الحنان الوالدي الذي يستضيف الحياة البشرية استضافة المجانية الشريفة والتجاوز الغفراني المذهل.

الإنسان الكارثة الأعظم

لن يفني الإنسان إلا الإنسان نفسه! لا الطبيعة، ولا القوى السحرية، ولا الآلهة تروم إبادتنا! وحده الإنسان الذي كف عن التزام شرعة حقوق الإنسان وأوغل في البهيمية الجارفة قادر على إهلاك البشرية في أي زمن من الأزمنة. ما دام الناس يتقاتلون من أجل رأي عقائدي، أو منفعة تجارية، أو قطعة من اليابسة، أو صنم من الأصنام، فإنهم إلى الفناء ذاهبون! أفلم يتعلم بنو البشر حكمة التحاور والتشاور والتفاوض حتى يرأفوا بأنفسهم وبالكوكب الجريح الذي لم يعد يطيق تفاهتهم؟ أومن الصعب التباحث الهادئ في توزيع خيرات الأرض توزيعاً عادلاً ينصف، على قدر المستطاع، من حرمتهم الأقدار أو حتى الأوضاع التاريخية من استغلال موارد تربتهم؟ الحقيقة أن الأوطان الحديثة تنعم جميعها، أو لنقل معظمها، بثروات مذهلة يختزنها باطن الأرض. من يصدق أن هذه الدولة أو تلك تعاني الفقر والعوز والاضطراب، في حين أن ثرواتها يتشارك في نهبها لصوص طبقتها السياسية، وقد تواطؤوا تواطؤاً خبيثاً مع أهل الاقتدار الكوني على إذلال الشعب المستكين.

أما هذا الشعب الذي يتحدث الجميع عنه في مجالسهم الحوارية، فكيف لنا أن نفهم تخلفه المتمادي وميله المرضي إلى عشق العبودية؟ الشعب المذلول ائتلاف ظرفي من الأفراد الذين لم يبلغوا حال الرشد التي تناولها الفيلسوف الألماني كانط (1724-1804) حين أعلن ضرورة التحرر من وصاية الآخرين. الجرأة على استخدام العقل النظيف الحر ترعب إنسان الشعوب المستضعفة هذه، ولكن من استضعفها؟ إلام يواظب الإنسان على استعباد نفسه والتضحية بكرامته وحريته إكراماً لزعيمه المفدى الذي يذله ليل نهار ويهينه في جوهر إنسانيته؟ معظم الكوارث التي يستهولها الناس ويعاينون فيها نهاية البشرية ناجمة، والحق يقال، عن العبوديات الصامتة التي تنتهك حرمة الكائن الإنساني. لذلك أسأل السؤال الذي حير الجميع: ما عدد القرون الزمنية التي يحتاج إليها الإنسان حتى تفلح عملية تهذيبه وتربيته فيستعيد جرأته على محبة ذاته وصون كرامته وتعزيز حريته والاضطلاع بمسؤوليته؟ كم من الناس يعتنقون فعلاً شعار عصر الأنوار: اجرؤ فاستخدم عقلك استخداماً حراً مستنيراً حتى تنعتق من وصايات العبودية؟ أعتقد أن الجواب عن السؤال المصيري هذا يحدد لنا آفاق الانهيار الآتي.

شاهد أيضاً

برغمان بين المسرح “زوجته” والسينما “عشيقته”: لا مكان للغيرة

    يعرف أهل السينما وجمهورها النخبوي أن المخرج السويدي الراحل إنغمار برغمان لم يكن مبدعاً سينمائياً …