بلدان الثروات والثورات والطبيعة الخلابة ومعقل الجرائم والتهريب. تلك أفريقيا التي تتشكل من دوائر متداخلة ملؤها التناقضات، فهذه الأرض الخيرة ذات الغطاء النباتي الذي لا مثيل له لطالما كانت أرضاً خصبة للحروب والانقلابات وأنظمة الحكم الوطنية التي تشبه الاستعمار في كل شيء، فضلاً عن معاناة الجوع والخوف والعنف والاقتتال الداخلي.
القارة التي تآلفت مع عدم الاستقرار يعيش شرقها وغربها حالياً تحت وطأة التدخلات الخارجية والاستغلال الداخلي من أبناء الوطن، والمأساة الإنسانية تتصاعد فيما تبدو القوى الدولية وكأنها بعيدة كل البعد مما تحتاج إليه تلك الشعوب التي تخلصت من الاحتلال قبل نحو 60 عاماً.
واللافت أن السينما العالمية دائماً ما تتناول هذا الجانب في أعمالها وتجتهد كثيراً في فضح ألاعيب الدول الكبرى للفوز بما تجود به أرض أفريقيا حتى لو حولتها إلى مقابر جماعية لسكانها الأبرياء تحت قناع خادع يسمى “المساعدات والصداقة”.
إنه صيف أفريقي تماماً، بحيث شهدت الأشهر الأخيرة كوارث إنسانية متوالية جرا
في إثيوبيا على مرأى ومسمع من الجميع، وهي أرض خصبة بكل ما تعنيه الكلمة، حيث تزدهر فيها التوترات وتشتعل الحروب تماماً كما تنمو الخيرات، وهو المزيج المثالي الذي يبحث عنه صناع السينما. وفي حين كان من المفترض أن تتسبب الطبيعة الغنية في رخاء البلدان وتطورها، فإنها تعمل بشكل معكوس ودراماتيكي إذ تتحول إلى لعنة مدمرة مكتملة الأركان ووبال على السكان والنظم السياسية وسبب رئيس في الانقلابات المسلحة، مثلما حدث على مدى حقب متعددة في جمهورية سيراليون الواقعة في غرب أفريقيا، لكن الحقبة الأكثر شهرة وحضوراً في البلاد هي مدة الـ11 عاماً بين 1991 وحتى 2002 حينما استولى المسلحون على الحكم وأرسلوا الرئيس حينها إلى غينيا، وغرقت المدن في حرب أهلية حصدت أناساً من أعمار مختلفة، وكان للألماس الدموي هنا دور محوري، فيقتاد زعماء الحرب والمتمردون الرجال الأشداء للعمل في المناجم بحثاً عنه لضمان استمرار تمويل نشاطاتهم غير المشروعة، لتئن البلاد التي حصلت على استقلالها من المملكة المتحدة في مطلع ستينيات القرن الماضي تحت ويلات محلية الصنع هذه المرة وإن كانت تغذيها على الدوام قوى خارجية لا تكشف عن نفسها بشكل صريح، وهي أمور تناولها فيلم ” “Blood Diamond (الألماس الدموي) من بطولة ليوناردو دي كابريو عام 2006.
حصد العمل الذي أخرجه إدوارد زويك خمسة ترشيحات “أوسكار” وتحاكي أحداثه ما كان يجري في البلاد بالفعل حيث طارد الانقلابيون السكان وأجبروهم على العمل في ظروف خطرة لاستخراج الألماس، وبعد أن تنجح عائلة البطل في الفرار يضطر إلى الرضوخ لمتطلبات الميليشيات المسلحة، وبينما يعثر على ماسة نادرة، وبعد أن تهاجم القوات الأميركية المنجم، يلتقي في محبسه بالأميركي داني أرتشر الذي يساعده على العثور على أسرته والهرب من السجن مقابل الحصول على الماسة.
وبحسب التقديرات فإن هذه الأحجار الثمينة مسؤولة عن موت ملايين يعملون لاستخراجها في ظروف غير آدمية وتحت تهديد السلاح، وعلى رغم محاولات تشديد العقوبات وسن قوانين تضمن الحصول على الألماس بطرق مشروعة فإن الوسائل الخارجة عن القانون لتهريب الألماس لا تزال تلقى رواجاً.
شاشة تنتصر للإنسانية
تقدر الأمم المتحدة عدد من لقوا حتفهم إبان الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 بنحو مليون شخص قضوا خلال 100 يوم فقط، غالبيتهم من قبائل “الهوتو” أو “التوتسي”، إذ قضوا على يد المتشددين في أعقاب عملية اغتيال الرئيسين الرواندي جوفينال هابياريمانا والبوروندي سيبريان نتارياميرا في حادثة إسقاط طائرة، وتوصف الأحداث العنيفة التي اشتعلت قبل 29 عاماً في البلد الذي يقع بوسط أفريقيا بأنها الأكثر دموية في القرن الـ20، واختارها المخرج تيري جورج ليوثقها عبر فيلم شديد القتامة أنتج عام 2004 ورشح لثلاث جوائز “أوسكار” هو ” “Hotel Rwanda(فندق رواندا) الذي تدور أحداثه حول مدير فندق بمدينة كيغالي يختار الانتصار للقيم الإنسانية ويخفي لديه نحو 1200 شخص ليجنبهم مصير القتل على أيدي المتشددين، ويتابع الجمهور معهم نظرات الخوف والهلع مع كل تهديد لحياتهم في ظل تواتر أنباء المذابح المروعة.
تتعدد أشكال الصراعات في قارة أفريقيا، لا سيما في الوسط والجنوب والغرب ما بين مذهبية وعرقية، وتخلف وراءها أشكالاً شتى من الدمار ما بين إبادات جماعية ومذابح ومجاعات وحروب أهلية ومشردين يتوارثون بؤسهم أجيالاً وراء أجيال، وفي كل وقت نجد إدانة للنظم السياسية التي لا تبحث عن رفاهية شعوبها ولكنها تفضل القبضة الحديدية، مستعملة أساليب السلطة الأبوية التي تخدر الشعب بالخطابات البارعة الحماسية المبشرة بالرخاء والمستقبل المشرق، لكنها في الحقيقة تنتصر لقيم بعيدة من الدولة الحديثة. ربما كان هذا ما حاول صناع فيلم “”The Last King of Scotland (آخر ملوك اسكتلندا) عام 2006 التركيز عليه من خلال شخصية الديكتاتور العسكري في أوغندا عيدي أمين الملقب بـ”هتلر الأسود” الذي وصل إلى السلطة في انقلاب عسكري، وجسد الدور فورست ويتكر وحصد من خلاله جائزة “أوسكار” أفضل ممثل، بينما كان الإخراج لكيفن ماكدونالد، ويتابع الجمهور من خلال الأحداث نموذجاً لحاكم يبدو ملهماً وغير تقليدي لكنه لا يتورع عن ارتكاب آلاف الفظائع، وكل هذا من وجة نظر طبيب اسكتلندي شاب تنشأ بينه وبين الجنرال صداقة فريدة، بخاصة أن عيدي أمين كان معجباً بالنموذج الاستكلندي، ولكن الولع بشخصية الرئيس يتحول إلى ارتباك ثم رعب ثم رغبة في الفرار بعد أن يكتشف الطبيب الشاب حقيقة شخصيته.
أمام سحر الكاميرا
وفيما لا يزال القتال مستمراً بين الجيش السوداني وقوات”الدعم السريع” على جبهات عدة بينها أم درمان والعاصمة الخرطوم، وهي الاشتباكات التي خلفت آلاف اللاجئين والنازحين، يمكننا تذكر فيلم “The Good Lie” (الكذبة الجيدة) 2014 من إخراج فيليب فالاردو وبطولة ريز ويذرسبون وكوري ستول، وهو العمل الذي يستعرض تفاصيل إنسانية مؤثرة حول رحلة أربعة أطفال فروا من الحرب الأهلية التي شردت سكان السودان في ثمانينيات القرن الماضي، كما يعرض أحداثاً حقيقية لأناس ثابروا وقاوموا وأصروا على النجاة على رغم الهلاك المحيط بهم، فيسيرون على أقدامهم ويختبرون الخطر بمختلف أنواعه إلى أن يستقر بهم المقام في مخيم للاجئين بدولة مجاورة، قبل أن تتاح لهم فرص اللجوء إلى الولايات المتحدة، وهنا نشاهد مفارقات تبدو كوميدية لكنها شديدة التعبير عن الفارق الشاسع بين العالمين، فالطفل الذي قضى 13 عاماً في مخيم يعيش على الفتات من الطبيعي أن يصاب بالذهول حينما يعلم أن أناساً في وطن آخر يدفعون أموالاً مقابل شراء طعام لكلابهم. وعن الأطفال في الحرب الأهلية أيضاً دارت أحداث فيلم Beasts of No Nation (وحوش بلا وطن) 2015 من إخراج كاري فوكوناغا، وهو مأخوذ من رواية للكاتب النيجيري- الأميركي أزودينما إيوالا، فيما لم يتم تحديد الدولة الأفريقية التي تدور فيها أحداثه على وجه الدقة، ونشاهد رحلة الصبي الذي انضم إلى ميليشيات عسكرية يتعامل قائدها مع الصغار باعتبارهم مجرد وسائل للنيل من أعدائه، وذلك بعدما اندلعت اشتباكات دموية وأهوال في القرية حيث يعيش البطل.
الأمل الخجول يطل
وأفريقيا كذلك منطقة شديدة التميز والثراء في ما يتعلق بعادات شعوبها المتفردة التي هي مصدر إلهام وإبداع، وهو ما ظهر على سبيل المثال في فيلم “Out of Africa” 1985 لميريل ستريب، وأهلها يقدمون نموذجاً بارعاً في مقاومة أقسى الظروف مثلما يظهر في “The First Grader” و”Queen of Katwe” وهي رمز للنضال ضد العبودية وكل أنواع الاستغلال كما في “Invictus” لمورغان فريمان والذي تناول حياة الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا.
لكن الحروب والتطاحن على العرش والتسابق إلى اقتناء الأسلحة وسرقة ثروات الشعوب كانت القيم السلبية الأكثر حضوراً في الأعمال السينمائية العالمية التي اتخذت من القارة السمراء مسرحاً لأحداثها، حتى إن كانت تحمل صوب نهاياتها أملاً في مستقبل أقل تعاسة، ومن بينها “Amistad” و”Black Panther” وأيضاًMr. Pip” ” الذي دارت أحداثه في غينيا الجديدة حول البطلة التي تهرب بالخيال والأدب من ذكرياتها المريرة.
Independent News