الرئيسية / كلمة العدد /
الغربة ( ٦٩)
حكاية البحث عن مطبعة !
مودي حكيم
مودي حكيم

الغربة ( ٦٩)
حكاية البحث عن مطبعة !

جولت وتجولت فى دروب المطابع المغربية لأيام باحثًا ودارسًا لمطابعها والامكانيات المتاحة لإصدار جريدة يومية ، ضمن مهمتي فى تحقيق رغبة العزيز أحمد الجارالله فى اصدار جريدة السياسة باللغة العربية فى بلاد تتحدث بألسن سبعة هى العربية وتاشلحيت وتمازجت والدارجة “العامية المغربية” والحسانية “اللهجة العربية لسكان الصحراء” إضافة إلى الأسبانية ، فى المناطق الشمالية ، والفرنسية اللغة الرسمية الحقيقية للدولة ، فى مقابل اللغة العربية التي هي لغة رسمية فى نص الدستور فقط 1962، واللغة المهيمنة بعد أكثر من نصف قرن على رحيل فرنسا من المغرب، رغم المطالبات الملحة من فئات مؤمنة برد الاعتبار للغة العربية، وتحرير المغرب من الإستعمار اللغوي الفرنسي. فالخروج الفرنسي الرسمي لم يجعل لغته كذلك تخرج معه والكثير من العناوين الصحافية والاذاعات، والبرامج التلفزيونية تخاطب متلقيها بلغة موليير. وحسب الاحصاءات نصف الشعب المغربي يتحدث الفرنسية، والمغرب ينظر إلى الفرنسية على أنها لغة النجاح الاقتصادي. عانيت  فى جولاتي بسوق الطباعة المغربية في تفهم الحوار، فلغة الحديث خليط من العربية والأمازيغية تتخللها كلمات من الفرنسية والأسبانية.

كان من الطبيعي فى دراستي وبحثي عن وضع الطباعة والنشر معرفة المزيد عن الصحافة فى المغرب. كان مصدري واحدا من من أبرز الوجوه الاعلامية فى المغرب، ومرجعا فى تاريخ الصحافة المغربية هو محمد العربي المساري ابن مدينة تطوان مهد الصحافة والنشر بالمغرب الذي بدأ حياته فى مهنة المتاعب منذ منتصف الخمسينات فى الإذاعة الوطنية المغربية، ثم تدرج من محرر الى رئيس تحرير صحيفة “العلم” أعرق صحف المغرب، وناضل من أجل حرية الصحافة منذ تولى أمانة نقابة الصحافة الوطنية المغربية فى الستينات والسبعينات، مدافعًا عن حرية الفكر والإبداع وعن لغة الضاد، مما كان سببًا في انتخابه رئيسًا لاتحاد الكتاب لثلاث ولايات متتالية. وعندما تولى منصب وزارة الإعلام فى حكومة الزعيم الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي اصطدم بعقبات تحول دون تحقيق أهدافه في مجال الإعلام، فترك منصب الوزارة ليقول أنه يشعر بأنه أفضل عندما يكون صحفيًا من وزير لايخدم قضية الصحافة. واختير المساري من اليونسكو كعضو في لجنة حرية الصحافة.

تعرفت عليه عندما صحبني الزميل رمزي صوفيا لزيارته فى مكتبه بالنقابة الوطنية للصحافة المغربية، مرحبا بي، معربًا عن محبته لمصر التي يدين لها، فقد تعلم الكثير من ذخائر مكتبتها الثقافية، ومن كتابها ومفكريها، وحكي لي قصته مع الصحافة مبكرا بمدينة تطوان حيث شارك وزير الشؤون الخارجية المغربي السابق محمد بن عيسي وهم طلبة فى تحرير مجلات حائطية ،وعن تجربته الصحفية وبدايته، وقتها كان متحمسًا للنشاط الذي كان قد بدأه فى إطار تنسيق فريق المثقفين الإسبان والمغاربة لبناء حوار مع الساسة الإسبان لتقليل الهوة وتبديد سوء الفهم بين البلدين.

وعندما سألته عن تاريخ الصحافة المغربية، تحمس فقد كان حاضرًا فى معظم المحطات المتعلقة بالمهنة وتشريع قوانينها، ثم لخص لى كيف شهد المغرب ميلاد الصحافة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهي الحقبة التي تؤرخ لبداية الصحافة من طرف الدول التي كانت لها أطماع على الأراضي المغربية، ورغبتها في الهيمنة والإستعمار. صدرت فى المغرب سبع عشر جريدة ناطقة بالفرنسية بين 1870 و 1912 تاريخ بدء الحماية،  كانت الصحافة تابعة للإستعمارين الفرنسي والإسباني، وظهرت مُقسمة عبر عدة مناطق سياسية، المرحلة الأولى 1820-1912 كانت بمثابة الإنطلاقة الأولى لعملية الكتابة الصحفية حيث ظهرت بعض الصحف والجرائد اليومية والأسبوعية التي كانت معبرة وناطقة بلسان المستعمر محاولا إبراز قوته ونفوذه السياسي والإقتصادي والاجتماعي، دون أن يغفل الجانب الثقافي والحضاري. كانت منطقة سبتة هي المنطقة الأولى التي ظهرت بها أول محاولة صحفية بالمغرب سنة 1820 باللغة الإسبانية تحت عنوان Liberal Africano، كانت تطبع في مدريد ولم يصدر منها سوى خمسة أعداد، ايضاً “الشمال والجنوب” وهي أول صحيفة تصدر بمدينة الدار البيضاء سنة 1882. أما مدينة الدار البيضاء فكانت هي المقر الرئيسي للمستعمر الفرنسي في المنطقة السلطانية، وبالتالي كانت المدينة هي مركز انطلاق الصحافة الاستعمارية الفرنسية، ولم تعرف صدور إلا صحيفة واحدة باللغة العربية، وهي جريدة “الأخبار المغربية” سنة 1912. أما باقي الصحف فكلها باللغة الفرنسية.

استودعت أيقونة الصحافة المغربية وذاكرتها بعد أن اهداني كتابه “صباح الخير أيتها الديمقراطية”.

****

رغم الإصدارات العديدة للمطابع المغربية، كانت اللغة العربية العائق فى إصدار السياسة الكويتية من المغرب، انعكست  الامكانيات الطباعية المكملة من صف الأحرف العربية على تقريري، فكان لابد أن يوصى التقرير بأهمية انشاء قسم للصف بمقر الجريدة ، وكذلك قسم ” لفصل الالوان” فلم يكن هناك بالدار البيضاء إلا معملين بإمكانيات متواضعة ، اما المطابع فقد كانت مطبعة جريدة لوماتان الصادرة باللغة الفرنسية هى الأنسب.

 

****

فى نهاية اليوم السابع من رحلتي لملمت اوراقى، وكل ما أفرزته جولاتي، وما نتج عنها بعد أيام مرهقة من معلومات فى وقت قصير عن سوق الطباعة فى المغرب والامكانيات المتاحة، واستعدادًا لأضعها على طاولة النقاش مع أحمد الجارالله لإتخاذ قرارات تتيح البدء فى الإعداد لطباعة جريدة السياسة الكويتية فى المغرب، لكن طاولة الكرم العراقي أرجئت الجلوس على طاولة النقاش، فقد أصر رمزي صوفيا على ضيافتي فى نهاية اليوم بمنزله فى شقة صغيرة أنيقة بنفس المجمع السكني الذي يضم مسكن الجارالله فى ” أنفا” على تناول الطعام المغربي، قبل تجهيز الطاولة الغارقة بكل ما لذ وطاب من الأطباق المغربية. وفى شرفة الشقة المطلة على أجمل مناظر الدار البيضاء، حاول صوفيا وبحماس شديد الحديث عن المطبخ المغربي وهو حوار فى حد ذاته اكتشاف لايقل عن اكتشاف مطابع وصحف وثقافة المغرب. واستطرد فى الحديث شارحًا فى إطناب وإسْهاب ليصل فى كلامه لتاريخ المطبخ المغربي، موضحًا أن لكل بيت مذاق طعام مميز، رائحة لاتشبهها رائحة وخلطة توابل يستطيع ابناء البيت تمييزها دائما. ولكل مدينة مطبخها وأطباقها المميزة، محتفظة بالتاريخ والثقافة والملامح المميزة لكل بلد، ويظل الطعام مرتبطا دائمًا ارتباطا وثيقا بالحضارة، فطرق الطهي المختلفة مغمورة  بالتفاعلات الحضارية بين الثقافات المختلفة، فالطهي ليس مجرد مكونات غذائية وإنما هو خليط مدهش من الأطعمة والروائح التي يحمل كل منها تراثا وتاريخا ممتدا وعلى نطاق أوسع. لكل مدينة مطبخها وأطباقها المميزة، حيث تُمرَّر الوصفات التقليدية من جيل إلى جيل، لكن يظل كل طبق محتفظا بنَفَس من التاريخ والثقافة والملامح المميزة لبلده الأصلي. لذلك ارتبط الطعام دائما ارتباطا وثيقا بالحضارة. و تعود أصول الكثير من الأطباق المغربية إلى السكان الأوائل منذ أكثر من 2000 عام، سواء طرق الطهي باستخدام الطاجين، أو استخدام مكونات مثل الكسكسي أو الحمص والفاصوليا، ويُعد مطبخهم هو المطبخ المؤسس ﻷغلب وأهم عادات وطرق الطهو في المطبخ المغربي. أما الفتح العربي في القرن السابع فقد أثر على المطبخ المغربي بشكل كبير، حيث جلب العرب معهم إلى المغرب التوابل مثل القرفة والفلفل الحلو والزنجبيل من بلاد الهند والصين، كما أدخلوا المكسرات والفواكه المجففة التي جلبوها من بلاد الفرس، وهو ما أثّر في إعداد الأطباق التي تجمع بين الطعم الحلو واللاذع. أما المور أو المغاربة من أصل أندلسي فقد أدخلوا إلى المطبخ المغربي الزيتون وزيت الزيتون واستخدام الموالح. كما تظهر بصمات اليهود المغاربة في طرق حفظ الأطعمة والمخللات. أما أثر الدولة العثمانية فيظهر في إدخال أطباق المشاوي والكباب إلى المطبخ المغربي خلال القرن السادس عشر. وعلى الرغم من قصر فترة الإحتلال الفرنسي نسبيا فإنه أثّر بوضوح على المطبخ المغربي، وما زال أثره ممتدا في طرق عمل بعض المعجنات والقهوة والنبيذ. وقد اختلطت كل هذه الأصول الثقافية وامتزجت معا على مر العصور لتُخرج أطباقا مغربية مميزة ليس لها مثيل، تُمكّنك من تذوق التاريخ عبر كل ملعقة.

انتهي الدرس التاريخي، و رسمت الصَّانِعة “الشغالة” طاولة الطعام بكل مالذ وطاب، فأكلت عيوني قبل الفم، من لوحة فنية من الإبداع اللوني مصحوبة برائحة أنواع التوابل، والوان الخضر والفاكهة. تذوقت بعيني جمال ودقة مظهر الطعام أشبه بلوحة للفنان كاندنسكي، مصحوبًا بشرح من صوفيا “البريوات” وهو طبق مقبلات مكون من معجنات مقلية مثلثة الشكل محشوة بالخضار المشوي، وكسكسي بالتوابل والخضار والحمص والنعناع ومزين بالزبيب والفستق، والوجبة الرئيسية طاجين من الحوت (المسمي المغربي للسمك) مزينا بالبطاطا المسلوقة والفلفل والزيتون والمطيشة أي الطماطم، وصحن “البسطيلة” أى الجلاش وهو طبق أندلسي أصيل ومشهور فى المغرب من أحد انواع المعجنات محشوة بالبصل والبقدونس واللوز ونوع من اللحوم دجاج أو سمك.

 

تسللت الحواس بين خبايا الروائح المختلفة للمطبخ الأصيل، وسافرت بي في رحلة متميزة بين نكهات لاتشبه غيرها من النكهات، ومذاق ساحر لأطباق الوانها مبتسمة وسعيدة صنعت بخلطة سحرية بحب وشغف  …. إستمتعت بها كثيرا ..

… و بعد تبادل عبارات الشكر لمضيفي والتمنيات بأن ” مطرح مايسري يمري ”

بدأ التجهيز لطاولة العمل ….!

 

مودي حكيم

 

شاهد أيضاً

مودي حكيم

 الهِجْرةٌ غَرَامُ .. أم اَنْتِقامِ ! « 5 »
أبو شادي وبطرس واطباء « هارلي »  !

هناك قصص نجاح لمهاجرين من رحم الازمات ، بعض من هاجر اراد الانتقام ، ممن استعمروه …