تعلمت أن سر النجاح فى الحياة أن تواجه مصاعبها بثبات الطير فى ثورة العاصفة، وحين اكبو انهض ، فلا انتظر أن يمد أحدهم يده ليساعدني، وأن أزيل الغبار عن النفس وأجمع حاجياتي لأكمل المسير، فالطريق لم ينته بعد. كان الصديق وزميل المهنة الكاتب الصحفي عبد الوهاب مطاوع يردد ” أصحاب النفوس الراضية لا خوف عليهم مهما قست عليهم بعض ظروف الحياة لأنهم يواجهون شدائدها بهذه النظرة المتسامحة التي تغفر للحياة كل ما يلاقونه فيها من آلام وينتظرون بصبر لا يكّل حظهم العادل من السعادة”.
عندما دعاني عميد الصحفيين الكويتين أحمد الجارالله للسفر للمغرب فى رحلة سفر لم أحسب لها حساباً فى رحلة حياتي، لم أعلم إذا كانت ستغير مجري حياتي أو ستودي بها، أن تفتح لي أبوابًا أو توصدها. ولأني اعشق السفر، وأحب أن أطوف العالمَ على درّاجة الحريِّة، والسفر بعيدا للعثور على ما هو قريب، وأطير لأكتشف دروبًا جديدة، سافرت من مطار لندن هيثرو على الخطوط المغربية بالدرجة الأولي حسب الدعوة الكريمة من الجارالله، فى رحلة ممتعة مميزة ، ودعتني فيها نجوم السماء بعد الغروب بقليل فى سماء شارك قليل من الغيوم فى لونها، صفائها كالزلال لاتشوبه شائبة، انعكس صفائها على نفوس المسافرين. استمتعت بالرحلة وبكرم فريق بيت الضيافة ومضيفاتها الجميلات، اشبه بكرم الشراقوة فوق السحاب. استغرقت الرحلة حوالى ثلاث ساعات ونصف، لتهبط بى بالدار البيضاء فى مطار محمد الخامس على اسم الراحل ملك المغرب، و هو المطار المصنف الأول على مستوي دول المغرب، والخامس في افريقيا، والمرتبة الرابعة من حيث عدد الركاب وعدد شركات الطيران التي تستخدم مطار الدار البيضاء. وهو المطار الذي بناه الأمريكيين في اوائل عام 1943 أثناء إندلاع الحرب العالمية الثانية كمطار فرعي لمطار آخر بالدار البيضاء، اسمه مطار برشيد، وبعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 ، تم تسليم المطار للسلطات المغربية.
هبطت أرض مطار الدار البيضاء، وعندما زَاَلَفت الى صالة المطار وفى منطقة الاجراءات الأمنية المحظورة علي المستقبلين، فوجئت بشخص فى الاربعينيات من العمر، ساحر الطلة، وحضور طاغي، وسيم، انيق الملبس، يبدو كنجم سينمائي بشعر فضى كان فى استقبالي، مرحبا بى، قدم نفسه، رمزي صوفيا المدير الإقليمي لجريدة السياسة الكويتية بالمغرب، استأذنني فى جواز سفري، وناوله لأحد العاملين بالمطار، وفى دقائق كنت خارج المطار، وحقائبي فى سيارته المرسيدس الفاخرة قادها بنفسه ليصحبني لمقر اقامتي. تعمد فى الطريق أن يسحرني بهدوء المغرب واستقراره وطبيعته الرائعة التى فاقت ماشهدته فى أوروبا، مرورا بطرق الدار البيضاء، أو كازابلانكا باللغة الاسبانية أو كازا حسب المسمي المختصر الذي يُطلقه عليها سكانها، التى تقع على ساحل المحيط الاطلنطي، مرورًا بأحدث مشروع شيّد ليحتضن البحر بكل عنفوانه وقدرته على إعطاء ألوان الزرقة والغموض والتنوع بهجتها، وحيث يعانق زَبَد البحر الفن والجمال والابداع المغربي الأصيل، معمار إعجازي استغرق بناؤه فى البحر قرابة 16 عاماً و شارف على الانتهاء ، و أصبح فيما بعد أشهر معالم المدينة. وأشهر مساجد العالم وأكبرها بعد الحرمين، مسجد الحسن الثاني الذي تبلغ ارتفاع مئذنته 210 مترًا ، ثم عبر بي لشاطئ لالا مريم الأجمل على الاطلاق، الذي يطل على المنارة والمساحات الخضراء التى تحيط به ساحرة . ولمزيد من محاولات صوفيا فى ابهاري، كان ميدان محمد الخامس وجهتنا بنافورته الضخمة وحولها تصطف اشجار النخيل كموطن لمبني المحكمة والمحافظة مع تمثال الجنرال ليوتي مؤسس ميناء المدينة، ونجح فى أبهاري ، ووقعت فى حب المدينة وخاصة عندما طاف بي فى مواقع تصوير الفيلم الاسطوري الشهير ” كازابلانكا ” الذي جمع
النجمان همفري بوجارت و انجريد برجمان فى قصة حب خالدة ، والذي تم تصويره فى الفضاء المتكئ على أحد اسوار المدينة العتيقة المطلة على المحيط الأطلسي، وتم عرضه في يناير / كانون الثاني 1943 بمشاركة الرئيس فرانكلين روزفلت في مؤتمر الدار البيضاء الذي جمع قادة الحلفاء لتنسيق الحرب. ولاتزال شعبية الفيلم وحضوره فى المخيلة الجماعية كبيرين إلى اليوم، وجعل المدينة شهيرة فى جميع أنحاء العالم، باعتباره واحدًا من خمسة افلام عالمية صورت فى المغرب. وقد فاز الفيلم بثلاثة جوائز أوسكار، ويعتبر الفيلم الأكثر رومانسية فى تاريخ الفن السابع .
استكفي مرافقي بهذا القدر من الجولة السياحية حتى استريح من أرهاق السفر، وتوجه بي الى مقاطعة “انفا ” غرب المدينة ، وهي كلمة أمازيغية تعني القمة، لتأتي المفاجأة الثانية منذ هبطت مطار الدار البيضاء، فقد استضافني الجارالله فى مقر اقامته فى ” بنتهاوس “ببنايات الروماندي ، لتستقبلنا مدبرة منزله ” مليكة ” بالترحيب، واستودعت رمزي صوفيا على لقاء اليوم التالي لبدء دراسة الامكانيات المتوفرة بالمغرب لطباعة الجريدة.
****
اصطحبني صوفيا فى اليوم التالي لوصولي فى جولة على شركات فصل الالوان فى الدار البيضاء ومطابعها، ولم تكن كثيرة، فالمغرب لم يعرف آلة الطباعة الحجرية إلا فى غضون عام 1864، حين أقدم فقيه من أهل سوس هو محمد بن الطيب الروداني بشراء آلة للطباعة ومعها جلب خبير طباعة مصري من عائلة القباني. واشرف محمد القباني على تدريب المغاربة وتمرينهم على تقنيات الطباعة، اشتهر منهم الطيب الأزرق ومحمد المراكشي، وعبد القادر الشفشاوني الذي ارسله السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان لمصر للتدريب بالمطابع الاميرية المصرية. ولكن الروداني لم يستعمل المطبعة لفائدته الشخصية بل قدمها هدية إلى السلطان شهورا قليلة بعد شرائها، فأصبحت نفقة الطابع المصري على عاتق ميزانية الدولة، وصارت تلك المطبعة تسمى «المطبعة السعيدة» أو «المطبعة المحمدية» نسبة إلى السلطان محمد الرابع، وانتقلت من مكناس إلى فاس حيث مقر إقامة السلطان.
ارتبط التأخر فى دخول فنون الطباعة العربية الى المغرب بموقف علماء المغرب من المذهب المالكي من التقنيات الغربية، وعدم الحاجة الملحة لتكنولوجيا الطباعة. فقبل 1864 كان نمط انتاج الكتب يعتمد على النسخ اليدوي، وهى مهنة محتكرة على فئة افراد الأسر القديمة، وتشكل وسيلة للارتقاء فى السلم الإجتماعي، والإستئثار بالوظائف الرسمية. ومعظم مواضيعها فى الفقه والتصوف وبعض علوم الشريعة، ولم يختلف نمط نظام التعليم، فالكتب والمراجع تنتج بنفس الأسلوب، فى الوقت الذي كانت الطباعة العبرية قد بدأت بالمغرب فى السنوات الأولي من القرن السادس عشر حين أقدم صمويل إسحاق اليهودي المغربي على انشاء دار عبرية للطباعة بفاس.
ويعتبر الطيب الأزرق من رواد الطباعة بالمغرب بعد رحيل محمد القباني الخبير المصري. وقد وجد الأزرق تمويلا لمشروع مطبعة لطباعة الكتب من تاجر فاسي اسمه حسين الدباغ ونجح فى إصدار سبع وعشرين كتابًا، ولأول مرة فى تاريخ المغرب أقدم الأزرق على طبع القرآن ، دون أن يثير ذلك حفيظة الأوساط الدينية. اما اول مطبعة صحف عرفها المغرب فكانت مطبعة أسبانية أقيمت فى طنجة لتطبع صحيفة ” أل لبرال افريكانو” أو” “الأفريقي الحر” باللغة الاسبانية. بينما كانت أول مطبعة تستخدم الحروف العربية هى المطبعة التى طبعت صحيفة المغرب فى ربيع 1889. ولعل أبرز تحول عرفته صناعة الكتاب هو تعاطي بعض الأفراد لهذه
المهنة لما تدره من أرباح. وفي هذا الإطار، يذكر فوزي عبد الرزاق أنه كان في المغرب، خلال العقود الممتدة ما بين ستينيات القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن العشرين، حوالي تسع طوابع ما بين مغاربة وأجانب وكذا حوالي عشرين فردا إهتموا بميدان النشر.
وفي سنة 1904، عمل المغرب على إنشاء أول جريدة مغربية في طنجة، وهي “لسان المغرب” للرد على جريدة “السعادة” التابعة للمفوضية الفرنسية التي كانت تعرض تفاصيل القضايا المتعلقة بالسياسة الداخلية للسلطان. كما يذكر المؤرخ محمد المنوني في الجزء الثاني من كتاب “مظاهر يقظة المغرب الحديث”.
ويبدو أن الطباعة لعبت دورا حاسما في التطورات السياسية التي شهدها المغرب، خصوصا في نهاية القرن الـ19 إلى دخول الاستعمار، فقد شكلت أداة مثالية لترويج الأفكار السياسية المختلفة، ومن أهم محطات تأثير المطبعة على الأحداث السياسية. وعرفت الثقافة المغربية نوعا من الحركة الديناميكية التي أدت إلى إحداث تحولات ثقافية مهمة خصوصا على المستوى التعليمي. كما أحدثت ثورة في البنية التعليمية التقليدية بتوفيرها للكتاب المدرسي وبالتالي تنشيط الحركة التعليمية، وتطويرها وتنويع موادها وعلومها وتبسيط مناهجها وتوسيع دائرتها. وأسهمت المطبعة في الترويج السياسي لمواقف سياسية معينة ونشر الأفكار الإصلاحية لرفع درجات الوعي في المجتمع المغربي. كما فتحت الطباعة آفاق التواصل الثقافي والحضاري بين المغرب والخارج ، فوصلت أصداء الدعوة الإصلاحية من الشرق انعكست على الكتابات المغربية لاسيما فى تناولها قضية إصلاحات التعليم والمجتمع المغربي، وعن طريق الكتب المصرية و اللبنانية بواسطة أعضاء البعثات التى درست فى جامعات مصر و سورية ولبنان وفرنسا، اطّلع المغاربة على النهضة العربية وعلى الكفاح ضد المستعمر بالدول الإسلامية ، فكان له أثر كبير فى نقل المعارف وتبادل الأفكار الإصلاحية بين المغرب والمشرق.
****
لم تكن حصيلة جولتي فى سوق الطباعة المغربية مبشرة بالخير، فالإمكانيات محدودة وهزيلة فى صف الحروف العربية وفصل الألوان … ولم يكن عدد مجمل المطابع بالمغرب بما فيها الوحدات الصغيرة، وتلك التي تختص فى طبع كل شئ إلا الكتاب الثقافي يتجاوز 125 مطبعة …وعدت بعد أيام من البحث والدراسة لأكتب تقريري!!