هَبطّتُ مطار الخرطوم بعد رحلة على الخطوط الجوية السودانية، لم تكن مريحة رغم قصرها. استقبلني بالمطار أحد المستشارين من مكتب النائب العام حسن الترابي ومعه الصديق والزميل الصحفي صلاح عبد اللطيف مدير وكالة أنباء الشرق الأوسط فى السودان. وقد تعارفنا أيام كان مراسلًا صحفيا للوكالة فى المملكة الأردنية وانا فى زيارة صحفية للأردن بدعوة من منظمة فلسطين العربية أيام كانت الأردن مقرًا للمنظمات الفلسطينية، وتصادقنا. إنطلقت السيارة بنا من المطار متجهة لفندق هيلتون للإقامة، وهو واحد من الفنادق الثلاثة الرئيسية فى الخرطوم، مع الجراند هوتيل والإكسلسيور. مرّت بنا السيارة على ضفاف النيل الأزرق المنساب فى مشيته كأنه صفحة مرآة مَجْلُوَّة،، ذلك النهر الذي جعله الله هادياً ومرشداً لوحدة وإخاء شعوب شقيقة ارتوت من ماء الحياة، فشربت من مائه صفواً وأكلوا من حصيده طيبا، ولكن دنست مياهه الأطماع والمؤامرات. قضيت أمسية ليلتي الأولي مع الصديق صلاح عبد اللطيف بعد أن انضم لنا العديد من الأخوة السودانيين من أصدقائه، فى أحاديث غمرتها البهجة وشلالات من الحب لذكريات من نور لزيارتهم لمصر وعشقهم للبلد الشقيق. ليلتها تعلمت أن السوداني إنسان أصيل، بسيط بطبعه، له شخصيته التى تميزه عن باقي الشعوب في العالم فهو مزيج من حضارة ضاربة بعمق في جذور التاريخ مع تنوع إثني، عرقي، ثقافي وإجتماعي. أرث قلّ أن يوجد مثيله في العالم، حيث تمازجت كل تلك المكونات لتشكل لوحة إبداعية فريدة من نوعها وتخرج شخصية مميزة بكل المقاييس، قادرة على التأقلم مع كل الظروف البيئية، قادرة على الإبتكار والتفرد، وتتميز بالرجولة والكرم، المروءة والأمانة، الصدق وإغاثة الملهوف، وكلها صفات إنسانية جميلة. كانت السودان تغمرها شلالات النور والبهجة، والسوداني ثمرة تلك الصفات الإنسانية التي كان يتصف بها قبل السنين العجاف التي طحنته حتي أضاعت تلك الصفات الجميلة بعد (طغي) السياسة واحتكار السلطة وتوجيه المجتمع، ليظل الإنسان يرزح تحت قبضة نفر قليل وإلى يوم الدين كما يحلف هؤلاء السياسيون.. رغم أنه مرّ بثلاث مراحل من الديمقراطية الحقة … مراحل ستظل عالقة بأذهاننا وخالدة ماخلدت الدنيا. كان إنسان السودان في تلك العهود الديمقراطية إنسان فرِح وسعيد، فكان يسير على الدرب السوى ولا أحزان تعتريه فهو يعرف أن له حقوق وعليه واجبات، ففي بلده كل جوانب الحياة مكتملة، فالتعليم كان مؤسسيا حتي صارت جامعة الخرطوم واحدة من ثلاثة جامعات أوائل في أفريقيا. وعُرِف أن المرأة السودانية رائدة في العلوم والسياسة والنشاط، حيث يفخر السودان بأول برلمانية في أفريقيا والشرق الأوسط وهى فاطمة أحمد إبراهيم فى عام 1969، و بأول امرأة تعين وزيرة للصحة فى عام 1974. كما قدّم السودان للشرق الأوسط أول قاضية، ومصورة سينمائية، وحَكَم كرة القدم، وضباط الجيش والشرطة.
كان السودان نموذجا للمدينة الفاضلة لدرجة أن حاكم الامارات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حين طاف على المدن العربية في زمانه عندما كان ينوى تأسيس بلاده، قال: أبقى مدن بلدى مثل الخرطوم !….
تأكدت لي فى صباح يومي الثاني في الخرطوم الصفات الحميدة للإنسان السوداني الفرح البسيط المحب العاشق، وانا استقل سيارة التاكسي لمقر وزارة العدل. وقد تعودت دائما عندما أستقل سيارة أجرة الجلوس فى المقعد الأمامى المجاور للسائق، ولكنه هذه المرة رفض وطلب منى الجلوس فى المقعد الخلفي، لأنه يتبارك ويتفاءل بصحن طعام من الألومنيوم مطلي بالمينا البيضاء يعتز به يحمل ذكرياته عن مصر، اشتراه من أسواق القاهرة يضعه دائما على المقعد المجاور، ويستخدمه فى إفطاره وغداءه. تفاءل بيومه فالراكب من مصر. أدار الراديو ليأتي صوت المطرب السوداني سيد خليفة فتمايل وكاد أن يترك مقود السيارة ليرقص على أنغام المامبو السوداني وهو اسم آلة موسيقية ولون موسيقي. ضحك وقهقه للصوت الجميل وهو يخاطب أحبابه بلهجته الطريفة قائلا “ازيكم…كيف حالكم…أنا لي زمان ما شفتكم”.
مررنا بالسيارة على جامعة الخرطوم عبق المكان وعراقة الإرث، وريادة الإسم وعلو القامة والهامة. كانت منتهى حلم الجميع من أبناء السودان وغير السودان، فالكل يُمَني نفسه بأن يكون أحد روادها. شارع (المين) الميدان الشرقي.. الميدان الغربي.. قاعة البروفيسور عبدالله الطيب.. مسجد الجامعة.. داخلية البركس.. عوالم ومشاهد ربما يوماً ما تكون ضمن قائمة التراث العالمي. وصلت لمقصدى وشكرت الزول (السائق)، وكانت أول مرة قلت فيها لفظ “زول” ولم أكن أعلم بعد أنها تعني “الرجل” بلهجة أهل السودان.
إستقبلني النائب العام د.حسن الترابي بقامته الرشيقة وابتسامته الساحرة، انسان سودانى جميل، يلمع الذكاء فى عيونه. ارتحت اليه وارتاح لي. لم أكن أعرف الكثير عنه أو عن اتجاهاته السياسية أو الدينية، غير انه سليل أسرة دينية توارثت العلوم الدينية على إمتداد مالا يقل عن 400 عام، وأنه ابن عبدالله الترابي القاضي الشرعي الذي صبّ علومه فى ابنه، كأغلب المشايخ، وأنه نال الماجستير من جامعة لندن والدكتوراه من جامعة السوربون كما حكي لى مقدِماً نفسه، وتقربا منى بحكم أني قادم من بلاد الانجليز. تحادثنا وعبّر عن إهتمامه باصدار قوانين السودان الجديدة فى عهده وامتنانه باهتمامي وحرص شركتي أن تخرج المطبوعات على أفضل صورة .. أَخْرَجّ من درج مكتبه ملفًا يحتوي عقد اتفاق بين الحكومة السودانية وشركتي ممثلة في شخصي، وقّعه بصفته النائب العام للبلاد. ووقعته أنا بدورى مع تعهد منى بالسرية التامة حتى يخرج العمل للنور. على طاولة الإجتماعات، كانت ستة صناديق تحمل قوانين السودان صدّق عليها الرئيس النميري رئيس البلاد، وأعطي الدكتور الترابي أوامره بارسال الصناديق الست بالحقيبة الدبلوماسية الى السفارة السودانية فى لندن، على أن أتسلمها شخصياً بعد عودتي.
وقبل أن يستودعني أصر على أن نشرب معا شاي المغرب وهو شاي يمزج بالحليب اشتهر به السودانيون، شكّل جزءاً من حياتهم وأصالتهم وتقاليدهم الجماعية عبر اللمّة الحلوة، فيلتقي معا جميع أفراد العائلة السودانية فضلاً عن الجيران والأصدقاء، كمنبر للتلاقي والنقاش فى شتى مناحي الحياة بما فيها السياسة. وشاي المغرب له طابع خاص نُظمت فى مدحه قصائد تؤكد قدسيته وأهميته كعامل للترابط الاجتماعي. واليوم ومع تسارع وتيرة الحياة والظروف الإقتصادية، انتشرت ظاهرة بائعات الشاي أو مايعرف محلياً ب “ستات الشاي”، وهن نسوة يقمن ببيع الشاي فى الطرقات والأماكن العامة فى الهواء الطلق، بطريقة بدائية تختصر فى عمله على “منقد” بالفحم، مهنة إبتدعتها النساء فى السودان لإعالة أسرهن. فى تواضع شديد صبّ الدكتور الترابي الشاي بنفسه، وتجاذبنا أطراف الحديث خارج دائرة العمل الرسمية. وبخجل شديد أخرج من حافظته كارت ” فيزيت”، أى مانطلق عليه Business Card يحمل اسمه ووظيفته الرسمية، وإستأذن منى أن اطبع له عددًا ليستخدمه فى العمل. وكان من الطبيعي أن أقوم بتلبية طلبه وإهدائه كمية منها كتقدير و إمتنان، وتواصل وأُلفة، وانا المتعاقد على عمل يحسدني عليه الكثيرون، ولكني فوجئت باصراره على تسديد قيمة طباعتها. أصر الترابي وبنزاهة شديدة وأمانة نادرة رفض مبدأ قبول أي عطية أو هدية مهما كانت بسيطًة حفاظًا على هيبة المنصب.
فى نهاية اللقاء استودعني وطلب منى لقاء قاضى القضاة خلف الله الرشيد للتعرف عليه، فهو الرجل الذي ساهم بجهد خارق فى وضع القانون الجديد فى الشئون السيادية والسياسية والعدلية والنظامية والإقتصادية والإجتماعية والأراضى والشئون المالية والتعليمية والمصارف والشركات والتجارة والشئون الصحية والخدمية ..الخ، وقام بصياغته. وخرجت من عنده مبهورًا بشخصية الرجل الذي غرق فيما بعد فى مستنقع السياسة وغرق معها.. وتوجهت للقاء قاضي القضاة.
مودي حكيم