هناك أشخاصا في رحلة الحياة يصبحون من أقرب الناس ولا يستحقوا سوي الحب، معهم نرمم أشياء كثيرة و نعيد طلاء الحياة.
محمد خير البدوي، ابن النيل نقي القلب، من دفعة العباقرة التي تخرجت من كلية جردون في الأربعينيات ومنها الأستاذ عبد الخالق محجوب والمهندس فاروق الطيب والأستاذ بشير إبراهيم ود. زكي حسن. والبدوي شارك في معركة الاستقلال، ودخل السجون من أجل حق بلاده في الحرية والإستقلال والتنمية. تزوج من سليلة الشيخ بابكر بدري الذي قاتل ضد الجيش البريطاني بقيادة كتشنر في معركة أم درمان.
في أواخر الحرب العالمية الثانية، عمل كاتباً حربياً في قوة دفاع السودان، وهي القوات التي شكلت نواة الجيش السوداني بعد استقلال البلاد عام 1956. احترف الصحافة في أول الخمسينيات كرئيس تحرير لصحيفة الوطن اليومية الناطقة باسم الحزب الجمهوري الاشتراكي، ثم في صحف أخرى ومديراً لمكتب وكالة الأنباء العربية (رويترز) في الخرطوم. شغل البدوي منصب رئيس تحرير جريدة الجزيرة في السودان الى أن طُرد من السودان بسبب مواقفه من حكومة عبود فى عهده، وذهب إلى لندن والتحق بالعمل في الإذاعة البريطانية، وبدأ العمل في راديو بي بي سي عام 1962، حتى تقاعده في عام 1985. ولم يطلب أن يتجنس بالجنسية البريطانية، وظل يحتفظ بجنسيته وجواز سفره السوداني. ومن برامجه المعروفة برنامج التجارة والصناعة الذي استمر لسنوات عديدة. من مؤلفاته كتاب “بطولات سودانية” عن دور السودان في الحرب العالمية الثانية، وكتاب “قطار العمر” في أدب المؤانسة والمجالسة وهو تسجيل لمسيرة حياته وأحداث السودان السياسية والاجتماعية. محمد خير البدوي كان شاهدًا على عصره و مؤرخا لحقبة مهمة مرت على السودان، قال شهاداته، فتأرجحت بين ما تعلمه في كتب التاريخ التي درسها وبين ما سرده هو استناداً على الوثائق البريطانية.
عندما اُتهم بإنه لم يجتهد فى تعليم ابنته الإعلامية المرموقة زينب البدوي اللغة العربية، جاء رده ” والله زينب تتقن اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي والروسي والفرنسي وبالفعل سألتها وقلت (طيب ما تهتمي بالأدب العربي) فقالت لي: (إنت لقيت شنو من الأدب العربي واللغة العربية)؟! فاقتنعت برأيها جداً. ولدت زينب في السودان ثم انتقلت أسرتها إلى بريطانيا وهي في سن الثانية. كان جدها بابكر بدري من أنصار محمد أحمد المهدي ورائد تعليم المرأة في السودان وهو الذي أنشأ جامعة الأحفاد للبنات.
***
وممن تعرفت عليهم من السودان الشقيق، الطيب صالح عبقري الرواية العربية بطبيعته المتواضعة، وزوجته الأسكتلندية جولي التي تزوجت به في نهاية الخمسينيات، وأنجبا ثلاث بنات هن زينب وسميرة وسارة. حرص الطيب صالح أن تبقى أسرته الصغيرة بعيدا عن وسائل الإعلام، وكان صارما في هذا الصدد. لقد هاجر صالح بعد أن قضي طفولته ومطلع شبابه المبكر فى السودان إلى لندن عام 1953 محولاً اختصاصه من العلوم الطبيعية إلى “الشؤون الدولية”. وفيها عمل في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية وترقى لاحقًا ليصبح رئيسًا لقسم الدراما. وفي ذات العام كتب أول نص قصصي له بعنوان “نخلة على الجدول” واذاعه عبر الإذاعة ذاتها. وأعقبه بـ”دومة ود حامد” العمل الذي يتناول حياة قرويين سودانيين يتمسكون بأرضهم وقيّمهم. وتعرف هناك على المستعرب الشهير دينيس جونسون ديفز الذي كان على معرفة كبيرة بالأدب العربي. وبفضل الصداقة العميقة بينهما، حفزه دينيس على كتابة “موسم الهجرة إلى الشمال” التي نشر بعض فصولها بالإنجليزية في مجلة “أصوات” المتخصصة بالثقافة، وكان دينيس يصدرها. وقام بترجمتها.
وفي الستينيات عمل الطيب صالح في بيروت، وبدأ فى 1966 نشر روايته باللغة العربية قبل أن تصدر في كتاب مستقل عن دار العودة في بيروت في العام نفسه ثم في طبعة شعبية عن سلسلة روايات الهلال في مصر مع مقدمة للناقد البارز رجاء النقاش.
تعد “موسم الهجرة إلى الشمال” من الأعمال العربية الاولى التي تناولت لقاء الثقافات وتفاعلها وصورة الآخر الغربي بعيون الشرقي، والغربي بعيون الآخر الشرقي الذي يُنظر اليه كشخص قادم من عالم رومانسي يسوده السحر ويكتنفه الغموض. وقد تطرق الطيب صالح في روايته الى هذه العلاقة من خلال شخصية بطلها السوداني الذي يذهب ليدرس في العاصمة البريطانية لندن. وهناك يضيف الى جانب تميزه وذكائه العقلي وتحصيله الجامعي العالى رصيدا كبيرا في اثبات فحولته الجنسية مع نساء بريطانيا الذين إحتلوا بلاده، مع تقديم صورة ساحرة عن الحياة في المجتمع الريفي السوداني. وتُرجمت الى 30 لغة. بدأ بالكتابة الأدبية عندما كان يعمل في مجلة “المجلة” وهي مجلة عربية في لندن، حيث اعتاد أن يكتب عمودًا فيها كل أسبوع، وقد كانت معظم كتاباته القصصية تتحدث عن الحياة الريفية والعلاقات المعقدة بين أبناء الريف في شمال السودان على الرغم من أنه أمضى معظم حياته في الخارج، متنقلاً بين بريطانيا وقطر وفرنسا، عندما عمل مديرًا اقليميا بمنظمة اليونيسكو بباريس، وممثلا لها في الخليج العربي.
والأغرب أنه على مقربة من مقر شركتي الجديد كان مبني السفارة السودانية فى شارع كليفلاند رو Cleveland Row المواجه لقصر سان جيمس. كان للدكتور منصور خالد والإعلامي محمد خير البدوي الفضل فى تقديمي لأسرة البعثة الدبلوماسية السودانية، فتعرفت على الكثير من الإخوة السودانيين، يتعاملون مع المصري بحب واحترام واعجاب مبالغ فيه، فهم عشاق لمصر وبكل من يأتي منها. والسوداني تتوفر فيه الكثير من الصفات الأخلاقية الجميلة اهمها الصدق والشهامة والتواضع وحسن الخلق واحترام الآخرين والصبر. ويتصف بأنه ليس بحاقد ولا إناني ولا خائن ولا يسخر من الاخرين …. جمعتني صداقة جديدة مع الملحق الصحفي والثقافي للسفارة السودانية، حدثني عن عشق جيله للقاهرة ولوجهها الأدبي والثقافي والفني. شبّ ونما كنتاج لعصير مكتبات الصحف الخشبية في زوايا مدينة ام درمان، حين كان ينتظر في شغف كل يوم خميس مجلات صباح الخير وآخر ساعة والمصور وروز اليوسف، مثلما كان ينتظر في طفولته مجلات سمير وميكي وروايات محمود سالم في كتب الألغاز.
أصبحت وشركتي فى لندن المأوى الطباعي، والمصدر الأمين لكل احتياجات السودان من مطبوعات، مأوى طبيعي لعلاقة ثنائية ترقي الى طموحات اشتهاها المصري والسوداني على مر العقود، لتجسيد فكرة وحدة وادي النيل. كان التحدي الأول فى التعامل مع السفارة السودانية هو تلبية إحتياجات الهابطين عليها من مؤسسات صناعية و كيانات اقتصادية وقانونية فى السودان، حسب الظروف التى تفرضها طبيعة العمل، منها التقرير السنوي لمجموعة بنك التنمية الأفريقي، وكان مقره الخرطوم ويرأسه شخصية تونسية، وبالتالي مدير العلاقات العامة والإعلام بالمجموعة تونسي ايضا، وهو يحضر الى لندن مرة كل عام حاملًا الأرقام والرسوم التوضيحية لميزانية المجموعة حتي اليوم الأخير من العام والتقرير السنوي عنها، بغية إصدار نسخ مطبوعة عنها باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، ليعود بمائة نسخة للخرطوم خلال ثلاثة ايام لعرضها فى اجتماع المحافظين فى الأسبوع الأول من يناير ” كانون ثان”. ولكم أن تتخيلوا الوقت الذي يحتاجه تصميم وتنفيذ طباعة عمل ضخم لكيان اقتصادي يتكون من بنك التنمية الأفريقي وصندوق التنمية الأفريقي وصندوق الإئتمان النيجيري. وتدار المجموعة بواسطة إدارة موحدة يمثلها مجلس المحافظين وسكرتاريته والتي تتمثل في مجلس المدراء التنفيذيين. وللبنك رئيس يدير عملياته المختلفة ومقره حالياً بجمهورية تونس. يتكون البنك من مجموعة من الدول الإقليمية وغير الإقليمية بنسبة تمثيل [40:60] علي التوالي. وبدأت مجموعة البنك عملياتها في السودان منذ عام 1971م وهي عبارة عن قروض ومنح خاصة فى مجالات التنمية الريفية وبناء القدرات ومكافحة الأمراض.
***
وتكتمل مسيرتي مع السودانيين فى لندن بعمل كبير هو طباعة قوانين السودان في أربعة عشر مجلدا. وجاء ترشيحي للقيام بهذا العمل من قِبل الصديق د.منصور خالد طيّب الله ثراه.
***
واستعددت للسفر للسودان وكانت علاقتنا قوية فى روز اليوسف بالسودان، فقد كان أعلى توزيع خارجي لمطبوعات الدار فى السودان وتليها العراق. كان الأخوة السودانيون يتلقَّفَوُن مجلات الدار عند هبوطها من الطائرة بمطار الخرطوم وقبل توزيعها على البائعين بالعاصمة، بالإضافة لمجلة ” الوادي” وترمز لوادي النيل، مجلة مشتركة تمد جسور التكامل بين البلدين باصدار مشترك من مؤسسة ” روز اليوسف” ومؤسسة الصحافة فى السودان. كان صلاح حافظ و هبة عنايت قد حملا فكرة المجلة للرئيس النميري ووافق عليها، وصدرت عن الجانبين السوداني المصري. وحسب تعبير الكاتب الكبير عادل حمودة (صلاح حافظ كان الأب الروحي لها.. وأول النافخين في لحمها ودمها.. وأكثر الباعثين على حيويتها.. وأشد المؤمنين بأن نهر النيل ينبع من قلوب السودانيين ويصب في عيون المصريين.. وأن الوحدة بينهما فرض عين سيحاسبنا الله يوم القيامة على إهماله).
اختار المبدع صلاح حافظ طاقم تحرير مشترك، من الجانب المصري الفنان هبة عنايت ومن السودان فضل الله محمد، لرئاسة التحرير، ومديرا تحرير الكاتب المصري النابغ عادل حمودة، وشريف طمبل مدير تحرير من الجانب السوداني. وصدرت المجلة بعد 3 أشهر من مطابع روز اليوسف.
***
سافرت للسودان لأول مرة…ولأكمل حكاوي غربتي الثانية مع السودان وقوانينه واشياء أخري.
مودي حكيم