الرئيسية / كلمة العدد /
الغربة الثانية (30)
إحْنا والملكة... جيران! (2/2)
مودي حكيم
مودي حكيم

الغربة الثانية (30)
إحْنا والملكة... جيران! (2/2)

أحسست أنني أجلس على قمة العالم, وكنت مزهواً بنفسي, منتشياً بالنجاحات التي حققتها, بإصرار, وكد, وجهد  موصول, ومتشاوفاً بأني تمكنت من أن يكون لي مقر عمل في منطقة “ويستمنستر”  التي تضم منطقة “ويست إند ” مركز الحكومة البريطانية والقلب النابض للتجارة و والإستثمار و المال،اضافة الي أماكن الترفيه الراقية من علب ليل, الى نوادٍ خاصة ومطاعم يتنافس للعمل فيها أشهر الطهاة,  وأكبر  وأهم منطقة أعمال مركزية فى المملكة المتحدة, مقارنة مع “ميد تاون مانهاتن” فى نيويورك, و”الدائرة الثامنة” فى باريس.

نويت أن أضع لافتة فيها اسم الشركة على واجهة المبنى, وحسب قوانين الإجراءات المرعية, تقدمت بطلب الى مجلس البلدية في المنطقة, للسماح لي بوضع اللافتة, وأرفقت مع الطلب, كما أشار المحامي جون اكيرسلي, صورة من تسجيل الشركة, الى جانب ملخص مقتضب عن مجال عملها.

بعد أسبوعين, وصلني بالبريد المسجل رفض الطلب, ومنعي من وضع اللافتة. وقد تعلل المجلس بأن موكب صاحبة الجلالة يمر بالشركة, وهو قد يسبب لها بعض الازعاج!!

ولم أصدق ما قرأت, كيف يمكن للافتة على مدخل مكتب, أن تزعج  صاحبة الجلالة؟

أفهم أن يكون سبب الرفض, أن المبنى هو من المباني المصنفة لقيمتها الهندسية وللمحافظة على تاريخ وتراث فن العمارة البريطاني, إلاَّ أنَّ ذلك لم يرد في حيثيات الرفض, ولم تشر رسالة مجلس البلدية, لا من قريب ولا من بعيد, عن أي صفة قانونية للمبنى.

ودار في ذهني ظن خبيث هو “العنصرية”, ولم أخفِه عن جون اكيرسلي, الذي بدده من ذهني, وكتب رسالة إحتج فيها على قرار مجلس البلدية, رافضاً تعليله جملة وتفصيلاً.

ولكن مجلس البلدية بقي على رفضه السماح بتركيب اللافتة… فقفز الى ذهني كين لينفغستون, وكنت عرفته  وتوثقت علاقتي به, لما كان بعد “رئيس مجلس البلدية للندن الكبرى” وهو كان يُحسب على الجناح اليساري المتطرف في حزب العمال.

أطلقت عليه الصحافة لقب “كين الأحمر”، و هو من ألد أعداء رئيسة الحكومة البريطانية, وقتذاك, مارجريت ثاتشر و أبرز المناكفين لها ولسياستها, وظل في منصبه من سنة 1981 حتى قامت “المرأة الحديدية” (كما كان يطلق على ثاتشر) بإلغاء المجلس سنة 1986.

وكان أن اُنتخب كين ليفنغستون سنة 1987 نائباً عن منطقة “برانت إيست” ، فاتصلت به و طلبت موعدا، فطلب أن نلتقي في مكتبه الخاص في دائرته الإنتخابية, الذي يلتقي فيه في العادة طلاب الحاجات من سكان الدائرة, وإلتقينا, ووجدته لم يزل يذكرني, ويذكر حديثنا الطويل عن مصر وحرب السويس. وفي نهاية اللقاء, أهداني نسخة من كتاب “العرب”  الذي كتبه أنطوني ناتينغ الذي استقال من منصبه الرفيع في وزارة الخارجية, إحتجاجاً على حرب السويس.

 

وكين ليفنغستون من المناصرين الحمسين للفلسطينيين وحقوقهم في الأراضي التي تحتلها إسرائيل, وبسبب من مواقفه المعادية الصريحة للدولة العبرية والحركة الصهيونية, التي نعتها مراراً عديدة بالنازية, عُلِقت سنة 2014 عضويته في “حزب العمال”. وفي سنة 2018 إستقال من الحزب الذي وهبه عمره وفكره وحياته السياسية.

خلال اللقاء في مكتبه, عرضت عليه ما جرى , وما كان من أمر مجلس البلدية…  كنت وأنا أشرح له شكواي, يكتب على مفكرة ملاحظات,  أستفسر, ففسرت, وطلب المزيد فأفضت, وزدت وأعدت, وتركته على أمل أن يعود إلي في غضون أسبوعين بالخبر اليقين.

وما عاد إليّ ولا إتصل, نسيني في حومة مشاكله مع طوني بلير, خصوصاً أنه كان ضد ما سمي وقتها “حزب العمال الجديد” الذي نقل “حزب العمال” الى الوسط.

وأنا أهملته, وما عدت راجعته أو إتصلت به, وعملت بالمقولة التي كان يرددها والدي:” لا يحك جلدك غير ظفرك”.

وبدأت “أحك” جلدي “بظفري”: الإحتجاج خلف الإحتجاج, والرسالة خلف الرسالة, وفي كل رسالة كانت  تعلو نبرة الكلام, حتى فاض بالمجلس, خضع, رافعاً العشر, ووافق على منحي حق وضع لافتة بإسم شركتي على مدخل المكتب, على ألا يزيد مقاسها عن أربعة امتار بارتفاع لايزيد عن خمسين سنتيمتراً وتألق الاسم عل لوحة من “ستانلس ستيل” المضئ Moody Graphic International

و ما سألت بعدها إن كانت الملكة قد إنزعجت عندما مرت أمام المكتب.. أم لا

***

وبدأت أفكر بحفل إفتتاح المقر الجديد, للمزيد من العلاقات العامة, وللتعريف بالتجهيزات الجديدة , وبما تستطيع الشركة القيام به من خدمات طباعية.

ولأن نشاط الشركة قائم على “لغة الضاد”, وأنا عاشق للحرف العربي, ولأشكال كتابته, و مايمثله الخط من أرث ثقافي وتاريخي, ومناح جمالية لا توجد في الأبجديات الأخرى, إن في هندسته, و تفاصيله, و أشكاله.

فقررت أن يكون إفتتاح بيت شركتي الجديد, هو الإحتفاء بالخط الحرفي, مصدر إلهام العديد من الفنانين والمعماريين.

كان على أرفف مكتبتي كتاب أعتز به, لا يفارقني في حِلّي وترحالي, وهو”فن الخط العربي” للخطاط سيد إبراهيم, أحدُ الآحاد في فن الخط.

والكتاب النادر كان طبع في مصر سنة 1941, ويشتمل على نماذج لجميع أنواع الخطوط، وصدرت منه ست طبعات, ونفذت كلها.

سَيِّد إبراهيم ولد في حي القلعة عام 1897, درس في “الجامع الأزهر” و”الجامعة الأهلية “. وتوّلع بالحرف العربي وبغِناه الفني في شكله, فكتب “الثلث” و”النسخ”, و”الفارسي”, بجلال كبير, كما كتب “الديواني”, و”الرقعة”.

كان من عادة سيد إبراهيم أن يمضي نهاراته في مشغل للرخام يملكه شقيقه, يتمرّن على كتابة الأحرف بالخطوط المتعددة.

ذات يوم مَرَّ بالمشغل مصطفى الغرّ, شيخ الخطاطين في زمانه,  فرأى الصبي يخط, وينقش, ويحفر,  فأعجبه ما رأى, وأدرك موهبة الصبي, فطلب منه أن يقابله في “الأزهر”… وإلتقاه الصبي, ومن يومها لازمه, فأخذ شيخ الخطاطين بيده, علّمه كيف يضع “الغزارة” بين اصبعيه, كيف يبريها, وكيف يميلها, ويلويها بحنان على الورق, ويتشكل الحرف على سنها… وراح يشجّعه على الخطّ, وحذّره من إنهاك قدراته الخطاطية بالحفر على الرخام والخشب.

في الأزهر, وجد سيد أبراهيم في الشيخ كمال الدين القاوقجي (وهو سوري الأصل) من حبّبه  بالأدب  والشعر، فقضى حياته بين الخطّ والشعر.

وما لم يتعلمه على يد مصطفى الغرّ تعلّمه بمعاينة ودراسة خطوط المساجد والعمائر المختلفة, فقد تعلّم الخط “الفارسي” من خطوط “جامع محمد علي”, و “الثلث” الجلي من خطوط عبد الله الزهدي على سبيل “أمّ عبّاس”. وإستزاد من خطوط مؤنس ومحمد جعفر، وتتلمذ على يد الخطّاط حسين حسني.

فتح مكتبا محاذٍ لشارع” محمّد علي”, ومشاغل أخرى  للحفر, واستمرّ في إنماء مواهبه الأدبية, فكان يحضر مع زميله كامل كيلاني (رائد أدب الأطفال) بعض محاضرات “الجامعة المصرية”.                                            ”

 

ووجد نفسه, بعدما إكتملت عدته وتميز في فنه, أن عليه أن يلقن غيره ما تعلمه ومارسه, حفاظاً على تراث  فن الخط العربي, والتجديد الدائم فيه. فوضع منهجاً لتدريس الخطّ في المدارس الإبتدائية, ثمّ تركه بعدما تتلمذ به من يمكنهم إكمال المهمة. وإنصرف للخط  في مكتبه، ولنشاطه الأدبي, فشارك في تأسيس” رابطة الأدب الحديث” و”جماعة أبّولو” مع أمير الشعراء أحمد شوقي, وإبراهيم ناجي, وأحمد زكي أبو شادي…  وكان يغشى المنتديات التي تجمعه بأدباء عصره مثل عباس محمود العقاد, وطه حسين, والزيّات وغيرهم..

حفظ شعر المعرّي: “سقط الزند”, و”لزوم ما لم يلزم”, والكثير من عيون الشعر, القديم والحديث. نشر مقالات عن الخطّ في مجلّتي “الهلال” و”العصور”, وقصائد في الجرائد والمجلاّت، و دُعي للتدريس في “مدرسة تحسين الخطوط العربية”, ولم ينقطع عنها لمدّة اثنين وأربعين عاما, حتّى اضطر إلى إجراء عملية جراحية لعينه.

مرّ سيد إبراهيم على “دار العلوم, فدرس فيها, كما درّس أصول فن الخط العربي في “الجامعة الأمريكية”,  وحاضر في “معهد المخطوطات العربية”.”

ولا فض فوه سعيد شريفي, هو القائل أن تصدّي سيّد إبراهيم لتدريس الخطّ على الرغم من استغنائه عنه له دلالات سامية، أهمّها المحافظة على المستوى الفنّي للخطّ, وإشاعة الخطّ في الناشئة.

ويخبر الخطاط محسن فتّوني, أنّه كان عائدا  بسيارة أجرة مع سيّد إبراهيم من “قصر المنيل” في القاهرة، فما كان منه إلا أن سأل السائق:

” أليس عندك أولاد؟ ”

:فأجابه الرجل بالإيجاب, فعاد سيّد إبراهيم ليسأله

“لماذا لا ترسلهم إلى مدرسة تحسين الخطوط؟”

وأضاف محسن فتّوني أنّه كرّر طرح السؤال نفسه على أحد زوّاره في مكتبه في “ميدان العتبة”, وقال: وكأنّي به يريد أن يجعل كلّ إنسان خطّاطا أو متذوّقا للخطّ على الأقلّ.

وأنت أمام لوحات سيِّد إبراهيم, يندفع الجمال الى عينيك من غير تمهيد, إذ الرسمة للحرف في اللوحة تهتز نضارة, وجملة ما يقع عليه نظر الناظر سحر يسكن خلف الخطوط, يتمرد على بحبوحة شكل الحرف. في لوحاته من الخط الديواني والفارسِّي والثُلث ما فَتَنْتَنِي, فشعَرت أَنْ الدُرَر الخطية التى أبدعها سيِّد إبراهيم لابد من عرضها فى لندن، والقاء الضوء عليها .  فأَعَدْت انتاج تلك اللوحات الخطية مستخدما تقنية الرسم والتلوين Air Brush

وتلك تقنية إنتشرت وشاعت في سبعينات القرن الماضي, قبل أن دخول تقنيات الكمبيوتر. انتشر الرسم بهذه التقنية في باريس أولاً, ومنها إنتشر فى اوروبا, ثم الولايات المتحدة, وراح الفنانون الكبار يستغنون عن الفرشاة, ويعتمدون على الهواء في بخ الألوان وتحديد الأشكال.

إشتغلت على أربعين لوحة, مستخدما ألواناً مبهرة لاتقلل من قيمة الخط بل زادته جمالًا وبهجة. وبطريقة بسيطة وانيقة اضفت اطاراً مناسبا للعرض فى جاليري أتخذ منتصف الصالة الرئيسية للمقر الجديد ليكون معرضًا.

والدعوة كانت عامة, والسفارة المصرية كانت على رأس القائمة, وبعدها السفارات والجاليات العربية، مديرو المصارف العربية, الى جانب  الشخصيات الثقافية والصحفية, المراسلين العرب والأجانب, ورؤساء تحرير المطبوعات العربية التي تصدر في لندن.

وصادف أن كان أحمد بهاء الدين في زيارة خاطفة للندن,  فلبى دعوتي, جال في المكتب, ومرّ على اللوحات الأربعين, وأصر على إقتناء واحدة وقف أمامها دهشاً, فرفعتها عن الجدار, وقدمتها له هدية, فاللوحات لم تكن للبيع. ومازالت هذه الاعمال تزين مكتبي في القاهرة.

***

ما كان قبل  حفل الإفتتاح (الذي إنفلشت صور المدعوين إليه في الصحف والمجلات), ليس كما بعده.

نجاح ملفت, ومنغصات ومضايقات من أكثر الناس قرباً ومودة, وعيون مسنونة.

وهو كلامٌ سَنيّ ما قيل لي:

“من رفسك من الخلف, يعني أنك في المقدمة”

حقيق أن الحياة تجمع الناس, والحياة تفرقهم..

مودي حكيم 

شاهد أيضاً

مودي حكيم

مصر – غزة – بالقطار “5”
ترويقة مناقيش بالزعتر

في صباح اليوم الثاني لي في غزة، التقيت مع ثلاثي الفن والشعر الغزاوية، شموط وبسيسو …