الرئيسية / صحافة ورأي / الفلسفة تواجه الاختلاف بين الرجل والمرأة بالبعد الوجودي

الفلسفة تواجه الاختلاف بين الرجل والمرأة بالبعد الوجودي

 

من المأثور في التقاليد الثقافية أن المجتمعات الإنسانية، على اختلاف مشاربها، تنسب إلى الرجال القوة والشدة والمراس الاحترافي في ميادين الرياضيات والسياسةوالفنون اليدوية المرهقة، في حين تحفظ للمرأة النعومة والرقة والإحساس، ولكنها تعيب عليها عجزها عن ضبط الاتجاهات وإدراك المواقع. لا ريب في أن هذه التباينات لا سند لها في قرائن البحث الأنثروبولوجي المحض. بيد أن الاختلاف بين الجنسَين ناشب في واقع الوجود الإنساني منذ صحوة الوعي الأولى. يذكرنا عالم النفس التحليلي الفرنسي جان- برتران بونتاليس (1924-2013) بأن السؤالين الأساسيين اللذين يستقبل بهما الناس الوليد يتعلقان بهويته الجنسية وبالاسم الذي سيحمله. ومن ثم، فإن الاعتراف الاجتماعي بجنس الوليد، سواء كان ذكراً أو أنثى، يولد آثاراً بالغةً في حياته، إذ يتضح المقام وتتعين الوظائف وترتسم الأدوار بحسب الانتساب الجنسي هذا.

وعلاوةً على ذلك، تنتظم العلاقات وتنعقد الترقبات والانتظارات وفقاً للذهنية الثقافية والاجتماعية السائدة. ذلك بأن الطفل والطفلة يتصرفان بحسب ما ينتظره المجتمع منهما، فيعززان شخصيتهما ويُنميان مواهبهما ويرسخان طباعهما بالاستناد إلى النموذج المثالي الذي يرسمه لهما التقليد المتواتر. حتى اللباس والزينة واختيار الألعاب وارتياد النوادي ومزاولة الرياضات البدنية اعتمادات اجتماعية مألوفة لا تلبث أن تتحول إلى مسالك ذاتية إنمائية مرتبطة بالهوية الجنسية التي يُضفي عليها المجتمع حكمه الثقافي. ومن ثم، تأتي التربية لتوطد الاختلاف البيولوجي وتستثمره في ترتيب أنماط التواصل.

إذا كان الأمر على هذا النحو، فإن التعارض الاجتماعي بين الرجل والمرأة ينقلب إلى بنية فكرية تحدد معالم الانتساب وتضبط أساليب الإدراك والتفاعل. يستجلي عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو (1930-2002) دلالة التناقضات التي تنشئها المجتمعات الإنسانية، ومنها العلوي والسفلي، والأمامي والورائي، واليميني واليساري، والداخل والخارج، والمستقيم والمنحني، والجاف والرطب، والصلب واللين، والجلي والغامض. ولا يلبث أن يعاين صفتَي الذكورة والإيجابية يُنعت بهما الطرف الأول، في حين يُنعت الطرف الثاني بصفتَي الأنوثة والسلبية. يصح مثل هذا النعت في المجتمعات القديمة، ولكنه نعت يميل إلى الشمولية والكونية، إذ أضحت تعتمده أغلب المجتمعات الإنسانية. يستنتج بورديو أن ترتيب الأمور وتوزيع النشاطات وإسناد المهمات في الفضاء الاجتماعي مسائل أنثروبولوجيةٌ تقترن بقضية التعارض الناشب بين الجنسين.

التأثيرات الثقافية والاجتماعية

غير أن مساءلة التمييز السائد بين الرجل والمرأة رافقت تطور الأبحاث الفلسفية والأنثروبولوجية والاجتماعية والنفسية المعاصرة. منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، أي بعد صدور كتاب الفيلسوفة الفرنسية سيمون دُبوڤوار (1908-1986) “الجنس الثاني” (Le deuxième sexe)، أخذ الفكر الغربي يستفسر عن الأصول القصية التي تسوغ إنشاء مثل هذا الاختلاف بين الجنسين. فبرز السؤال الفلسفي في صوغ جديد: الرجل، ما هو؟ ومن هو؟ المرأة، من هي؟ وما هي؟

تنبري طبيبة علم الأعصاب الباحثة البيولوجية الفرنسية كاترين فيدال (1951-….) لتدافع عن طواعية الخلايا الدماغية التي تحدد صورة الرجل والمرأة في الهيكل الجسدي من جراء المؤثرات الثقافية والاجتماعية الضاغطة. في كتابها “أدمغتنا متشابهةٌ كلها، مختلفةٌ كلها” (Nos cerveaux, tous pareils, tous différents)، تذهب إلى أن الاختلافات الناشطة بين الرجل والمرأة على مستوى الملَكات والاستعدادات والطاقات والقابليات، إنما هي نتاج بيئة ثقافية وبناء اجتماعي يؤثران تأثيراً بالغاً في توجيه نمو الدماغ الذي يمتاز بخصوصية المطواعية التشكلية المرنة.

ومن ثم، فإن أثر البنية البيولوجية الأصلية لا يتجاوز مستوى المعطى الأولي الخام. فالأنوثة والذكورة معطى بيولوجي خاضع لتحولات خطيرة تهندسها البيئة الثقافية الاجتماعية الحاضنة. أما في الكتاب الجماعي الذي أشرفت على إعداده “مؤنث/مذكر: الأساطير والأيديولوجيات” (Féminin/Masculin. Mythes et idéologies)، فإنها تؤيد انبثاقَ جنس إنساني سلس لين مطواع متنوعِ الأوجه متعدد التأثرات، يتجسد تجسداً تاريخياً يختلف من شخص إلى آخر ومن سياق إلى آخر. لا ريب في أن النظرية المربكة هذه استثارت زوبعةً من الاعتراضات العلمية والفكرية حمل لواءها عالم البيولوجيا البلجيكي جاك بالتازار (1949-….) الذي عاب عليها تسرعها في التحليل البيولوجي الصرف ومغالاتها في مناصرة مبدأ احتمال التعاقب والتنوع الجنسي في الهيكل الجسدي الذاتي الواحد.

تعتقد فيلسوفة الجندر (الجنس) الأميركية جوديت بَتلر (1956-….) أن الاختلافات بين الرجل والمرأة تاريخية ثقافية تفرضها التقاليد المتوارثة، لذلك لا بد في نظرها من التمييز بين الجنسي (sex) الذي هو واقع بيولوجي، والجنس (gender) الذي هو تصور ثقافي يسود في زمن من الأزمنة وفي قرائن اجتماعية معينة. ليس من المنطقي أن ينكر المرء البنية الجنسية التي يقوم عليها هيكل الرجل وهيكل المرأة. بيد أن وصف الهيكلَين وصفاً ثقافياً ينبغي أن يخضع لمراجعة نقدية صارمة، إذ إن الاعتبارات التي نسوقها في إنشاء هذا الوصف تنبثق من تصورات منحازة ظالمة. تستند بَتلر، في كتابها الشهير “اضطراب الجنس: النسائية وتخريب الهوية” (Gender Trouble. Feminism and the Subversion of Identity)، إلى نظرية الإنجازية (performativity) التي تعتمدها الألسنيات المعاصرة، لا سيما في اجتهادات فيلسوف اللغة البريطاني جون أوستن (1911-1960). حين تطبق هذه النظرية على هوية الجنس الذكري أو الأنثوي، تدرك أن مسلك الطرفَين لا يحددهما الجنس البيولوجي الذي جُبلا عليه، بل التزام قواعد الانتساب إلى الثقافة الاجتماعية التي فيها ينشآن وينموان ويتربيان ويتهذبان. الجنس فعل اجتماعي يُنجزه الانتساب الثقافي، لا الفطرة البيولوجية الأصلية.

ومن ثم، ينبغي مراعاة القرائن الاجتماعية والثقافية التي ينشأ عليها الإنسان قبل أن تُلصق بجسده هوية الجنس الذي يمكن أن ينتمي إليه. الإنسان كائن حر في إنجاز هويته بحسب ما يستنسبه من اقتناعات، وما يؤيده من اختبارات، وما يستلطفه من تذوقات، وما يستحسنه من انتسابات. لا بد، والحال هذه، من معارضة جميع الفلسفات النسائية التي تفترض جوهراً أنثوياً ذاتي الأصل والنشأة يتقدم على مقولة الاختلاف بين الجنسين. حقيقة الأمر أن الهوية الجنسية لا قيام لها بمعزل عن الأفعال المسلكية الاجتماعية التي تُنجزها: “إن الكآبة المقترنة بالاختلاف بين الجنسين تمأسست ثقافياً من حيث إنها الثمن الذي ينبغي تسديده من أجل الحصول على هويات جنسية ثابتة” (جوديت بَتلر، “اضطراب الجنس: النسائية وتخريب الهوية”، ص 70). إذا كان الأمر على هذا النحو، فإن بَتلر تستنهض الكائنات الإنسانية إلى استثارة الاضطراب في هويتهم الذاتية حتى يتبينوا المآل الكياني الذي يناسب عمق وعيهم الذاتي، فيعيدون تأويل هويتهم الجنسية بالاستناد إلى اختباراتهم الثقافية التغييرية الإصلاحية.

إنسانية الإنسان

يجدر القول، في هذا السياق، إن جميع العلماء لا يوافقون إريتييه على التعليل الأنثروبولوجي هذا. ينبري عالم البيولوجيا التطورية والباليونتولوجيا (علم الإحاثة) الفرنسي ميشال ريمون (1959-….) ليذكرنا بأن الاختلاف في البنية الجسدية إنما يقترن بالصراع الذكوري على الإناث اللواتي كن يفضلن الذكر المستحكم البنية، الصلب العضل، المفتول الساعدين، العريض المنكبين، الشديد الأوصال. من جراء التنافس الجسدي على الفوز بالأنثى المرغوبة، كان الذكور، سواء في عالم الحيوان غير العاقل أو في عالم الحيوان العاقل، يعززون بنيتهم الجسدية، ويطورون طاقاتهم العضلية، وينمون منعتهم الغذائية.

يبين لنا الكاتب والمحلل النفسي الفرنسي ميشال شنيدر (1944-….) في كتابه “اختلاط الجنسين” (La confusion des sexes) أن موقف اللامبالاة الذي تقفه البشرية من مسألة الجنس ناجم عن سقوط الاختلاف بين الجنسين، أي عن الإمعان في إسقاط الاختلاف الطبيعي بين الرجل والمرأة. الميل الغالب في الحداثة الغربية يقضي أن يتبادل الجنسان المقامات والوظائف والأدوار، فتختلط على الناس الحدود الطبيعية المرسومة. من شدة الإصرار على المساواة بين الرجل والمرأة، انتهى الأمر إلى تعطيل عملية بناء الهوية الجنسية الذاتية. على قدر ما انعتقت المرأة من هيمنة الرجل واستعادت سلطتها على جسدها بواسطة وسائل منع الحمل القسري والإجهاض المسوغ، أفضى بها النضال النسائي إلى الاستئثار بقرار الإنجاب والتناسل وديمومة الجنس البشري بأسره. ومن ثم، فإن شنيدر يعارض التشريع الاعتباطي في مسألة الحياة الجنسية، ويُصر على البنية الثنائية التعاضدية الذكرية- الأنثوية في الإخصاب والإنجاب، والتربية، والرعاية والاحتضان.

رأس الكلام في هذا كله أن الاعتراف بالاختلاف بين الرجل والمرأة لا يعني على الإطلاق الإخضاع والتبعية، بل يبين أحوال الطبيعة الإنسانية في معطياتها البيولوجية الأصلية. ومن ثم، فإن المساواة لا تستتبع إبطال الاختلاف، بل رعايته وصونه وإغناءه بإسهامات الجنسين معاً. المشكلة كامنة في تأويل هذه المعطيات. ذلك بأن الإسراف في طلب التماثل يُفضي بنا إلى المثليات القاهرة. ماذا ينفع الإنسان أن ينتقل بذكوريته إلى الأنوثة أو بأنوثته إلى الذكورة؟ إذا انتقل الرجل إلى مقام المرأة، فأضحى يختبر ما تختبره ويعاني ما تعانيه، وقعنا على الاختلاف عينه، وإنْ في هيكل جسدي آخر! ليس المطلوب أن ينتقل الرجال إلى مصاف النساء أو أن تتنقل النساء إلى مصاف الرجال، بل أن يحيا الرجل والمرأة في روح الابتهاج الهني بهويتهما الجنسية الذاتية، وقد ازدانت باختبارات الانفتاح والتقابس والتلاقح. أما الاختلاف بينهما، فعطية بهية من عطايا الحياة ونعمة سنية من نعَم الوجود، لا يجوز أن تتحول إلى نقمة وجدانية تثقل وعينا بمرارة التظلم والتشكي

 

Independent News

شاهد أيضاً

النحات برانكوزي بلغ جوهر الأشياء وضوءها الخفي

انطوان جوكي  في العام 1904، عبر فنان روماني شاب أوروبا مشياً قاصداً باريس بغية الإقامة فيها والاستقرار. …